استقراء لعلّ.. واستنتاج لعسى ..
**غادا فؤاد السمّان – بيروت
إذا كان مطمح إسرائيل منذ حرب تموز الماضية على لبنان في ال 2006، هو السير قُدُماً نحو السلام، وكسر جميع القيود التي تقيّد حركتها خارج الأرض المحتلّة، وفتح أبواب التطبيع بينها وبين الدول العربيّة على مصراعيها، و لا يخفى على أحد أن تطوّر العلاقات العربية الإسرائيلية في اضطراد وتنامٍ متصاعد ومستمرّ، ولم تعد علاقات التطبيع خافية على أحد ولم تعد عمليات التواصل بين الدول العربيّة المطبّعة تمرّ بخفر تحت الطاولة، بل العكس فقد حسمت السياسات العربيّة أمرها واتّجهت نحو التطبيع وإقامة شبكة من العلاقات والمصالح المتقاطعة دون أيّ تردّد أو أيّ تحفّظ أو أيّ اعتبار، حتى أنّنا شهدنا علنا الوفود الزائرة من كلا الطرفين يتبادلون استعراض مشاعرهم الجياشة و غبطتهم الفيّاضة على مرأى عدسات الكاميرات في العديد من البلاد العربيّة وبالعكس أيضاً في العديد من المدن الإسرائيليّة..
إذاً إسرائيل نجحت في رسم خريطة التطبيع إلى حدّ ما، وربما إلى حدّ أبعد مما نتصور مع دول الخليج، بعد أن أوهمتها من “البعبع ” الإيراني الذي يمثل جملة من المخاوف المتمثلة بالأطماع المتوارثة عبر الإمبراطورية الفارسية التي قيّدها الإسلام وقضى على جبروتها الذي كان علامة فارقة في تاريخ القارّة الآسيوية لكل ما فيه من سيطرة وغطرسة وبطش..
إسرائيل اليوم التي تتشاطر الجوار المباشر مع بلاد الشام المتمثلة في سورية والأردن وفلسطين والعراق ولبنان وهو الأقرب وهو الأهم.. إذا صرفنا النظر عن لا شرعيتها وعن لا أحقيّتها في الاستيلاء على أرض فلسطين، وقبلناها ضيفاً ثقيل الظل بشكل أو بآخر، واجتهدت فيما تجتهد لكي تظهر حسن النوايا بحكم الجوار أولاً، ووضعت خططاً موضوعية وعقلانيّة ومثالية أمام شعوب المنطقة، لا أمام السياسيين، واكترثت بما يُرضي المواطن العادي بالحرص على حسن الجوار أولاً وهي تعلم علم اليقين المثل القائل “الجار قبل الدار ” وقد تشرّبت الكثير من طباع أهل المنطقة ومن عاداتهم وتقاليدهم وأمثالهم وحتى أطباقهم الشعبية فهي تحبّ طبق التبولة الذي نحبه، وتعشق الحمّص كما نعشقه، لدرجة المفاخرة به، وتتماهى بمطربينا، وبأغانيهم التي ترددها في سهراتها، وترقص على أنغامنا جملة وتفصيلاً، وتتمثّل بأمثالنا الشعبيّة، وتتابع بشغف كبير الكثير من الأعمال الدراميّة لممثلينا، وتبهرها الأزياء التي يبدعها “عبد محفوظ ” و “إيلي صعب ” و “فؤاد سركيس ” الذين وصلوا العالمية بجدارة..
إذاً إسرائيل هل فكّرت بينها وبين نفسها وبين منظريها، وهي تقف قبالة الخطّ الأزرق أن ترمي يوماً بالورود إلى أهالي الجنوب بدلاً من أن ترمي الصواريخ والقذائف، هل فكّرت أن تزرع الحدود الضيّقة جداً بالريحان والغار وشجر المسك أو الكولونيا، هل فكّرت أن تضع إكليل الجبل لترضي الطرفين بدل أن تلهب التلال والسهول والحقول والهضاب بالنار والبارود؟!
في أميركا تقليد شائع، أن يبادر الجار بزيارة جاره حاملاً معه قالب كيك أو قالب حلوى من نوع آخر، وكأنه يكتب رسالة حسن نية داخل القالب مغمّسة بالسكر، لقد جرّبت إسرائيل العنف في اجتياح ال1982ولم تفلح، وجرّبت في غارات ال 1996 ولم تفلح وجرّبت في حرب ال 2006 ولم تفلح، ثلاثة تجارب خلال 42 سنة كفيلة لتشكيل ثلاثة أجيال غاضبة حانقة ثائرة ساخطة وحقودة، ولن يزيل حقدها دمع الأمهات المتوارث ولا آهات الآباء الذين فقدوا أبناءهم وأعزاءهم وكثير من أصدقاء الدرب والمسرى..
حتى أشجار الزيتون التي يثقلها حملها، ولا تجد من يخفف عنها في هذا الموسم الحافل بالزيتون الوفير، والقذائف الغادرة على حرمة الجنوب التي تعيق استقبال الزيت كمولود منتظر منذ عام كامل يسعد ليس الجنوب وحسب بل يسعد لبنان كل لبنان وكثير من بلاد العالم التي تشهد بزيتون الجنوب المثالي.
إذاً إسرائيل ألا ترى معي أن العنف لن يولّد غير العنف، وهل تظن إسرائيل لو استطعت أن تقضي على القيادت لن تجد البديل في كلّ شاب واعٍ وواعد، وكلّ صبيّة، هل القضاء على القيادات يعني إلغاء النسل الثائر، ألا تعلم أن الجينات تورّث قناعاتها، وتشكّل كيانات الأمّة التي لا تنسى مهما تعاقب عليها من أجيال..!!
أما آن الأوان لتغيّر إسرائيل نهجها شكلاً ومضموناً لم يجد نفعاً لا لها ولا على الجوار في ايّ حرب من الحروب السابقة، وبدلاً من هدر المليارات “الأميريكيّة ” وبدلاً من اللعب بمصير شعبها أولاً وشعوب المنطقة على التوالي أن تبادر إلى وقف الحرب، وبداً من قذف النار، تسعى إلى قذف العطروالخير والسلام، الذي سيفوح حتماً ويتناهى إلى أرضها بالتوازي مع أرض بلاد الشام، وتهدأ وتيرتها العدوانية، وتترك شعبها ينام في أسرّته قرير العين بعيداً عن أبواق الذعر، ورطوبة الملاجئ، بعيداً عن التهجير من الشمال، والإنزياح السياحي والإنصراف التام، بعيداً عن الهرب عبر المطارات المكتظّة بالفارين والخائبين من دولة الوهم والمستقبل الآمن..
ما الذي يمنع إسرائيل أن تضع بعضها بعضاً أمام مراياها وتبسط كامل دفاترها القديمة والقريبة والحديثة جداً بالسياسات العنفيّة المتصاعدة مع الفلسطينيين ومع دول الجوار الأقرب إليها “سوريا و لبنان “، وتقطع الطريق على العرض العسكري المزري، وتعلن إسدال الستار على الإجرام المجاني الذي لن ولن يأت عليها بأي خير في أي يوم من الأيام..
الناس سئمت الحرب، وسئمت الدم، وسئمت النار، والناس في لبنان ومثلها في سوريا تتوق للأمان ثم الأمان ثم الأمان، ولا سبيل للأمان غير السلام، لقد حمل ياسر عرفات غصن الزيتون بيد وبندقيّة الثائر بالأخرى، فقتلتم البادرة واغتلتم غيرها، وكأنّكم توّاقون لنشر الموت لا غيره، ونشر الذعر لا سواه، ما الذي يمنعكم من تسخير أموال النار إلى تعزيز الهدوء، وإلى تبرير الجوار برقيّ السلوك، ونبل الأخلاق، لاتفرحوا لموت أزرار الورد من أبناء الجوار، ولا تدعوا لهم الفرصة كي يعاملوا ضحاياكم بالمثل، فكما تتألم الأم اللبنانية المفجوعة كل العمر، ستتألّم الأم الإسرائيليّة كل العمر، سبعون عاماً ويزيد من العنف أما آن الأوان كي تتقاعدوا من ذلك الفكر الهَرِم العاجز عن الحلّ حتى اليوم..
ما يحصل راهناً ليس مجرّد حرب، ليس مجرّد فكر إجرامي، ليس مجرّد سياسةَ بطشٍ رعناء، إنه مشهد هستيري لقيادة لا تملك أيّ ذرة من منطق، ولا تملك أي نواة من غِراس الحكمة، هي تزرع الشوك، والشوك مثلها لا يعرف اللباقة والأناقة والأخلاق ولا يفلح بغير التمادي الذي سيفترس خطوات كل الذين سمحوا له بالتمادي.
**شاعرة وكاتبة ورئيس تحرير مجلّة –إلا illa-lazina.com