يعيش لبنان اليوم مرحلة دقيقة وحسّاسة، وقد تكون الاخطر منذ انتهاء الحرب الاهلية وانتظام الدولة اللبنانية، بالحدّ الادنى، تحت مظلّة اتفاق الطائف. فمع استمرار العدوان الاسرائيلي وما يخلّفه يوميّاً من ضحايا ودمار، يبدو أن تأزّم الوضع الداخلي بدأ يُلقي بثقله كتحدٍّ على اللبنانيين أن يتعاطوا معه بعقلانية حتى لا يكون اليوم التالي للحرب هو اليوم الأول لبدء تصفية الحسابات داخلياً.
فعلى الرغم من الاجماع اللبناني، على اعتبار إسرائيل دولةً عدوّةً، الاّ أن هذا العداء يختلف من حيث مفهومه الوطني الواسع والجامع عن المسار الذي يسلكه حزب لله في مواجهة اسرائيل تحت رايات «الجهاد المذهبي» بدلاً من «الواجب الوطني» وتحت مظلّة التبعية العقائدية لولاية الفقيه والارتباط العسكري بالحرس الثوري الايراني، ما يُصعّب تأمين التوافق الوطني حوله، ليس لدى باقي الطوائف لا بل حتى ضمن الطائفة الشيعية التي فيها الكثير من الوطنيّين الذين يعتبرون، كما كان الامام السيّد موسى الصدر يعتبر، أن الدولة فوق المذاهب والطوائف، ويعبّرون عن عدائهم لإسرائيل من منطلقٍ وطني بعيداً عن الدين الذي يُفترض أن تُمارس شعائره في دور العبادة بدلاً من رفع شعاراته في ساحات المعارك.
بأي حال لا يجب أن يُشكّل التباين العميق بين شريحة كبيرة من اللبنانيين وحزب لله، مقروناً بالحرب التي تخوضها اسرائيل بوجه لبنان وتركيز عدوانها بشكل خاص على مناطق «بيئة الحزب»، فرصةً يستفيد منها العدو في زيادة حدّة الانقسام الداخلي وتسعير الخلافات اللبنانية أو حتى رهان بعض المغالين على انهاء حزب لله.
من هنا تبرز أهمية الحفاظ على الحدّ الادنى من «الثوابت الوطنية»، التي يُفترض ألاّ تكون محلّ خلاف بين اللبنانيين، كعاملٍ أساسيٍّ مطلوب لحماية السلم الاهلي في «اليوم الحالي» للحرب كما في «يومها التالي»، ومن أجل ترميم التشظّي الذي لحق بالنسيج الداخلي اللبناني كما بانسجامه مع محيطه العربي، نتيجة تراكمات من الممارسات الخاطئة التي تتحمّل مسؤوليتها الدولة كما «الدُويلة» التي نشأت في ظلّها على حدّ سواء.
قد تكون «هوية لبنان العربية» هي أثمن ما يُمكن للبنانيين الحفاظ عليه، بعد ضياع مدّخراتهم في البنوك وخسارة أحبائهم ودمار أرزاقهم في هذه الحرب، خصوصاً بعد انعقاد القمة العربية والاسلامية غير العادية في الرياض في الحادي عشر من الشهر الحالي، اذ شكّلت مقرّرات هذه القمة ثوابت عربية يُفترض أن تكون محلّ اجماع لدى مختلف القوى والأحزاب والشخصيات اللبنانية.
فقد دعت هذه القمة الى وقف الحرب على لبنان وغزة، وأكّدت على دعمها للبنان ومطالبتها بتطبيق القرار ١٧٠١ ونشر الجيش اللبناني في الجنوب، وأدانت العدوان الاسرائيلي ووصفت ما يقوم به الاحتلال في غزة من جرائم بالإبادة الجماعية وطالبت مجلس الامن بتشكيل لجنة تحقيق مستقلّة ذات مصداقية للتحقيق في تلك الجرائم، كما جدّدت دعمها لحقّ العودة ولإقامة دولة فلسطينية مستقلّة على حدود ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية رافضةً محاولات «تهويدها»، ولعلّ أبرز ما جرى في تلك القمة كانت دعوة ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان اسرائيل «لاحترام سيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشقيقة، وعدم الاعتداء على أراضيها».
يُمكن القول، وبعيداً عن تفاصيل المقرّرات التي انتهت اليها تلك القمة، أن أهم النتائج التي حقّقتها كانت في اعادة التأكيد على الهوية العربية للقضية الفلسطينية، ووضع حدّ لمحاولة السطو الايراني عليها، وأبرزت أهمية حماية هذه القضية من خلال «مسارات الشرعية الدولية» بعيداً عن «التكاليف الشرعية» التي كان يُصدرها المرشد الاعلى في إيران، والتي باتت بحاجة اليوم لمن يدعم سيادتها «سياسياً» في مواجهة اسرائيل، بعد أن كانت وطيلة عقود تنتهك «عسكريّاً» عبر أذرعها، وتحت ذريعة مواجهة اسرائيل، سيادة العديد من الدول العربية، ومن بينها المملكة العربية السعودية الدولة المضيفة لهذه القمة.
هذا على صعيد فلسطين المحتلّة، أما على الصعيد اللبناني، فما حملته هذه القمة من دعمٍ الى لبنان والتزام بسيادته لا يقلّ أهمّيةً، رغم الخطاب المسيء الذي تبنّاه حزب اللّه طيلة سنوات تجاه المملكة وقيادتها، وسط تجاهلٍ من الدولة اللبنانية لهذه الاساءات يكاد يبلغ حدّ التواطؤ، ويُمكن في هذا الإطار استذكار كيف أن أحد المنشدين الذين يدورون في فلك الحزب كان يحلّ ضيفاً في البرامج التلفزيونية ويزور المقرّات الرسمية الحكومية وينشر على وسائل التواصل صوراً له مع أحد المراجع الحكومية مدوّناً أنه ناقش معه مسائل مرتبطة بعلاقات لبنان الديبلوماسية مع احدى الدول الكبرى! في حين أنه مطلوب بموجب قرار توقيف قضائي بجرم الاساءة الى المملكة العربية السعودية وقيادتها، ومن واجب السلطات اللبنانية توقيفه وليس استقباله.
على الرغم من كل ذلك، تجاوزت المملكة هذه الاساءات، ونجحت في قمّة الرياض التي ترأسها وليّ العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، بتوجيهاتٍ من خادم الحرمَين الشريفَين الملك سلمان بن عبد العزيز، في صياغة موقف عربي واسلامي مبدئي مدافع عن لبنان وعن سيادته على كامل أراضيه وعبّرت عن دعم القوات المسلحة اللبنانية الشرعية، وشدّدت على أهمية الإسراع بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة استناداً لأحكام الدستور، ولم تُحمّل لبنان أعباءً لا يستطيع حملها ولا دعت الى ما يقوّض الوحدة الوطنية، ولا سعت الى تغليب فريق لبناني على حساب فريق لبناني آخر.
ويُمكن اعتبار أن أولى نتائج قمة الرياض لبنانياً، كان بروز بداية تحوّل إيراني، وان محدود، تجاه لبنان تمثّل في زيارة الموفد الخاص للمرشد الايراني الى المنطقة علي لاريجاني، الى بيروت الاسبوع الفائت، وتبدّل الموقف الايراني الذي نقله سابقاً كل من وزير خارجية إيران عباس عراقجي ورئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف، حيث لأول مرّة يُعلن مسؤول ايراني رفيع بشكلٍ صريح ودون مواربة دعم إيران لتطبيق القرار ١٧٠١ وانتخاب رئيس يتّفق عليه اللبنانيّون ودعم لبنان في أي قرار تتّخذه الحكومة في مفاوضاتها لوقف إطلاق النار. ورغم تأكيده أيضاً على دعم أي قرار تتّخذه المقاومة الا أن لاريجاني ابتعد عن استخدام شعار «وحدة الساحات» الذي تبنّاه عراقجي وقاليباف، في زيارتَيهما الاخيرتَين الى لبنان، ما أدى يومها الى ردود فعل لبنانية سلبية.
وعليه، وأمام هذه الاندفاعة العربية والسعودية القوية والتراجع التكتيكي لإيران المدركة لخطورة اللحظة وما تحمله من متغيّرات في ميزان القوى الإقليمي، يبدو مركب النجاة العربي في مرسى لبنان اليوم، الذي يبقى عليه تحديد البوصلة في المسار الذي سيسلكه، ليس في الخطاب الرسمي الذي لا يُغني ولا يُسمن، بل على صعيد الأداء الفعلي والقدرة على تطبيق القرارات الدولية واستعادة الدولة لقرار السلم والحرب ونشر الجيش اللبناني في الجنوب والابتعاد عن أجندات المحاور. ولا شكّ أن نجاح لبنان في الاستفادة من هذه الفرصة والتجاوب مع مقرّرات قمّة الرياض والدعم الذي منحته إياه، كفيل بإخراج المركب اللبناني من مستنقع التوتّرات والنزاعات التي تغذّيها إيران في المنطقة، وتعزيز حاضنته العربية في مواجهة العدوان الاسرائيلي والاتجاه به نحو برّ الاستقرار والأمان العربي، أما الفشل فيعني الغرق أكثر في هذا المستنقع ومزيد من الخراب والدمار والقتل والتهجير بانتظار فرصة أخرى لا تبدو سانحة في المدى المنظور.