خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
بعيداً عما سيحصل بين هوكشتاين ونتنياهو خلال لقائهما هذا اليوم؛ فإن هناك أسئلة تركتها زيارة موفد الرئيس بايدن للبنان أثناء اليومين الفائتين.
أحد هذه الأسئلة تتعلق بالمعنى الكامن وراء جولة الزيارات التي قام بها وشملت إلى المشاركين بالتفاوض (الرئيسين بري وميقاتي وقائد الجيش) الرئيس ميشال عون ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ووليد جنبلاط.
ويبدو أن هوكشتاين تم لفته من قبل السفارة الأميركية للقيام بهذه الزيارة وذلك بعد أن وصل لمسامع السفيرة ليزا جونسون آراء لبعض أصدقاء عوكر اللبنانيين تقول إن واشنطن تقبل بمفاوضة المسلمين في لبنان حول مستقبل السلم والحرب بين لبنان وإسرائيل؛ في حين أنها لا تلتفت لرأي رؤساء الأحزاب المسيحيين حول هذا الموضوع الاستراتيجي والذي سيكون له نتائج كبيرة على لبنان.
وما يمكن استنتاجه هنا هو أن جولة هوكشتاين على رؤساء أحزاب المسيحيين والدروز كانت بنصيحة لبنانية ولم تكن بتوجيه من وزارة الخارجية الأميركية ولا من داخل الولايات المتحدة الأميركية؛ ولذا يمكن اعتبار أن خلفياتها ولدت في لبنان ونتائجها سيتركها وراءه هوكشتاين في لبنان.
وضمن هذا الجو اللبناني الذي حصلت فيه جولة هوكشتاين على رؤساء الأحزاب المسيحية والدرزية وليس الجو الأميركي؛ ثار تساؤل لماذا لم يزور هوكشتاين النائب سليمان فرنجية ولماذا لم يزر رؤساء أحزاب درزية غير جنبلاط ولماذا لم يزر الكتائب؟؟.
رغم أن زيارات هوكشتاين ولدت على سرير نصيحة لبنانية وليس جرّاء توجيه من الولايات المتحدة الأميركية إلا أن مروحة الشخصيات التي شملتها تدلل على وجود انطباع عن أن بلد الأرز يشبه عربة تجرها أربعة احصنة: حصان شيعي يفاوض، وحصان سني يواكب، وحصانان ماروني ودرزي يشاهدان.
وهذا المشهد الذي يراد له أن يكون محلياً، بمعنى أنه لا يوجد اعتراف خارجي به، بات له عملياً صفة “الأمر الواقع”؛ غير أنه بات له بعد إعلان إسرائيل بدء حربها على لبنان ظلاً آخر يوازيه على أرض الواقع المعاش، رغم أنه لا يشبهه؛ والمقصود هنا نشوء خارطة نزوح ديموغرافي تظهر شيعة نازحين وطوائف أخرى مضيفة.
والمشهد الديموغرافي الناتج عن العدوان الإسرائيلي يوضح أن الحصان الشيعي المتقدم داخل معادلة الحكم في لبنان، والذي تفاوضه واشنطن حصراً دون باقي زعماء طوائف لبنان؛ إنما هو في حالة نزف ديموغرافي داخل بلده..
وعليه يمكن القول إن الحصان الشيعي الذي اعترفت واشنطن بأن قرار التسوية معه؛ تغطي واشنطن بنفس الوقت قرار نتنياهو بجعله نازحاً داخل وطنه.
وهكذا يبدو أن الانفتاح الأميركي على التفاوض مع الشيعة يتم في ذات الوقت الذي تدعم فيه واشنطن قيام نتنياهو بوضع مسدس التهجير والتدمير على رأس المفاوض الشيعي.
.. وكأن المعادلة تتجه لوضع الشيعة أمام الخيارات التالية: نزوح مؤقت خلال زمن التفاوض.. وتهجير دائم في حال فشل التفاوض.
وما تقدم يعني أن النزوح الشيعي فيما لو صحت المعادلة الآنفة؛ سيكون أمراً مؤقتاً فيما لو نجح المفاوض الشيعي في التكيف مع المبادرة الأميركية التي تفاوض على ضمان أمن إسرائيل انطلاقاً من اعتبار أميركي ثابت مفاده أن الخطر الناشئ ضد الدولة العبرية يصدر من لبنان وليس من سياسات إسرائيل ضد لبنان أو ضد الفلسطينيين، الخ..
وفي حال لم ينجح المفاوض الشيعي بتلبية هواجس الجيل المقبل وليس فقط الحالي من هواجس أمن إسرائيل، فإن هذا قد يدفع صناع الحرب على لبنان إلى انتهاج خيار جعل “النزوح الشيعي” يصبح أمام خطر تحوله “التهجير الشيعي”..
وإذا كان النزوح يعني الانتقال من البيت إلى بيت الشريك في الوطن فإن التهجير يعني الانتقال من الأرض الحيثية خاصة الشيعة إلى أرض الحيثيات الأخرى داخل الوطن وقد تمتد لتصبح غربة خارج الوطن.
لا شك أن وقف العدوان هو ما يطلبه كل لبنان كأولوية على جدول بنود إيجاد تسوية للحرب الراهنة؛ ولكن داخل مطلب وقف العدوان يوجد أولوية ثانية وهي مطلب عودة النازحين مقرونة مع بدء إعادة الإعمار؛ لأن إنهاء الحرب من دون ضمانة بعودة النازحين مع بدء الإعمار، يعني أمراً واحداً هو تحويل النازح الشيعي إلى مهجر داخل بلده وبالتالي تحويله إلى مشروع تهجير للخارج!!
وفي هذه النقطة يجب أن يتنبه لبنان الذي يفاوض عنه اليوم المكون السياسي الشيعي إلى أن مهمة “إعادة البناء” هي حرب لا تقل ضراوة عن “حرب تدمير البناء”؛ فتجربة ما يحدث لعملية إعادة الإعمار في سورية المجمدة حتى الآن، تظهر للمراقب أن عملية إعادة البناء لا تحتاج فقط إلى توفر المال، بل أيضاً وبالأساس تحتاج إلى توفر قرار سياسي دولي يسمح أولاً بتمويل إعادة البناء؛ وثانياً ببدء إعادة البناء؛ وثالثاً يسمح بعودة سكان المباني والمناطق النازحين إلى بيوتهم وأرضهم.
لدينا في السنوات الأخيرة تجربة الترانسفير لأرمن قرة كارباخ إلى أرمينيا.. والآن يجري تحت أعيننا مشهد ترحيل سكان شمال غزة إلى جنوب غزة، وإقامة خط نتساريم ليس بوصفه حاجزاً أمنياً؛ بل بوصفه جدار فصل بين النازح الغزاوي في جنوب غزة وأرضه ومنزله الواقعين في شمال غزة.. وبنفس الوقت لدينا الآن مشهد إجبار أكثر من مليون لبناني شيعي على النزوح من بيوتهم ومناطقهم داخل بلدهم وأيضاً إلى خارج بلدهم – ولو كان النوع الثاني من هذا النزوح يتم بأعداد لا تزال لغاية الآن غير كبيرة.
المقاربة بين هذه المشاهد تحتم على لبنان أن يعطي الأولوية بعد وقف العدوان لمطلب عودة النازحين الذي يجب أن يكون مترابطاً مع الحصول على ضمانة دولية وتعهد بإطلاق عملية إعادة البناء؛ لأن الكلام عن طلب ضمانة دولية لعودتهم من دون ضمانة دولية بنفس الوقت بإعادة بناء مناطقهم، لن يكون له إلا نتيجة واحدة وهي تحول النزوح مع الوقت إلى تهجير يترافق مع غض نظر دولي عنه أو حتى تشجيعه.
يبقى بالنهاية إشارة هامة يجدر التنبه لها وهي أن واشنطن الديموقراطية أو الجمهورية، ترى أن الخطر على السلم في المنطقة ينتج عن عدم مراعاة أمن إسرائيل؛ وترى أن الدول والشعوب تستحق الاستقرار بقدر ما تقدم استقراراً لإسرائيل..
قديماً قال ماوتسي تونغ: المقاومة هي سمكة تسبح في بحر الناس، وإذا خرجت المقاومة من ماء الناس تموت.
في لبنان قد تذهب إسرائيل لاعتماد استراتيجية الشرط الثاني من مقولة ماوتسي تونغ، أي إخراج الناس للأبد من البحر (أي من مناطقهم) حتى تواجه المقاومة خيار اختناقها..