موقف لحظة:
لبنان بين الميدان والميزان: من اغتيال الحريري إلى اعتقال نتنياهو
المصدر: جريدة اللواء
شهد لبنان منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في ١٤ شباط ٢٠٠٥ تحوّلات سياسية محلية وإقليمية كبرى، نقلت البلاد من حقبة الوصاية السورية إلى حقبة الهيمنة الايرانية. ومع هذا التفجير الذي حصل على بعد أمتارٍ قليلة من «نفق الفينيسيا» وسط بيروت، دخل الوطن في نفقٍ عتِمٍ من عدم الاستقرار السياسي والأمني، ودعت الدول العربية والاجنبية رعاياها لمغادرة لبنان فخلت الفنادق من السيّاح والمغتربين وأضحت سجوناً طوعيةً لشخصياتٍ عديدة خوفاً من خطر «الإعدام الميداني»، اذ باتت موازين القوى تُحسم بالدمّ والنار عوضَ أن تُحسب بميزان العدل والقانون، ورُجّحت كفّة السلاح والميدان على حساب كفّة الدستور والمؤسسات.

لم يكن اغتيال الحريري مجرّد «عملية استئصال تدميرية» أوقفت النبض في قلب بيروت وفجّرت شرايينه ومزّقت الجسد اللبناني الهشّ، بل كان بمثابة زلزالٍ سياسيٍّ هزّ أُسس التوازنات الداخلية وانهار معه بنيان الكيان اللبناني ليُعاد بناء التحالفات المحلية والإقليمية وحتى الدولية على أنقاض ما خلّفه من فراغٍ سياسيّ وانهيار اقتصادي ودمارٍ مؤسساتي، فلبنان بعد غياب رفيق الحريري لن يعود كما قبله.
وبين ١٤ شباط «الحقيقة لأجل لبنان» و٨ آذار «شكراً سوريا» و١٤ آذار «سوريا برّا برّا»، تشكّل في لبنان فالق سياسي أكثر عمقاً وأشدّ نشاطاً من فالق اليمونة، منذراً بهزّاتٍ ارتدادية خطرة. ومع صدور قرار مجلس الامن رقم ١٥٩٥ تاريخ ٧ نيسان ٢٠٠٥، بناءً لطلب الحكومة اللبنانية برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة، تشكيل لجنة تحقيق دولية لكشف ملابسات الاغتيال والجهات المتورّطة فيه، ومع تزايد الاتهامات الدولية والعربية والمحلية وفي الشارع السنيّ باتجاه النظام الأمني اللبناني – السوري، أُجبرت سوريا على تسديدٍ فوري وعلى دفعةٍ واحدة لفاتورةٍ مؤجّلةٍ عن ٢٩ عاماً من الهيمنة على لبنان، فانسحبت قواتها العسكرية من كامل الاراضي اللبنانية في ٢٦ نيسان، رغم أن الطرح بدأ بإعادة تموضعٍ باتجاه البقاع يليه انسحابٌ على دفعات.

ومع خروج جيشها من لبنان، أسدلت سوريا الستارة على حقبةٍ امتدت لثلاثة عقود تحكّمت خلالها بمصالح لبنان وبقراراته الداخلية وسياسته الخارجية، وأحكمت فيها سيطرتها على الدولة اللبنانية تحت شعار «وحدة المسار والمصير»، وانطلق مسار العدالة الدولية الذي لم يكُن أقلّ تفخيخاً من المسار الذي سلكه موكب الحريري في رحلته الاخيرة من ساحة النجمة الى قصر قريطم.
فإلى جانب تزايد وتيرة الاغتيالات السياسية والتفجيرات العشوائية التي أرهبت اللبنانيّين، أتت حرب تموز ٢٠٠٦ لتُغرق مسار العدالة بحمّامٍ من الدمّ وتلفّه بزنارٍ من الدمار الذي طال البنى التحتية وشبكة المواصلات اللبنانية. ومع تدمير الجسور وانهيارها من المديرج الى الكازينو وصولاً الى الفيدار، كانت ما تبقى من جسور للتواصل السياسي بين «٨» و»١٤» آذار بدورها تنهار. ولم تحُل النيران التي التهبت في البارجة الاسرائيلية «ساعر-٥» وأغرقتها بعد اصابتها بصواريخٍ دقيقة أطلقها حزب لله، دون غرق الحكومة اللبنانية واشتعالها في أتون دوامةٍ من الخلافات العقيمة والعميقة لمنع انشاء المحكمة الدولية، وبدا أن نيران حزب لله لم تعُد تفرّق بين عدوٍّ وصديق، فأطلق الوزراء الشيعة الخمسة «رصاصة النقمة» على الرئيس السنيورة وحكومته في ١١ تشرين الثاني ٢٠٠٦ معلنين استقالتهم منها، الاّ أنها عقدت في اليوم التالي جلسةً بغيابهم طلبت فيها من مجلس الأمن الدولي إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
وبعد طول أخذٍ وردّ، قرّر مجلس الأمن انشاء المحكمة بموجب قراره رقم ١٧٥٧ تاريخ ٣٠ أيار ٢٠٠٧، في وقت كان لبنان يواجه عقباتٍ شتى، أبرزها استمرار المقاطعة الشيعية للحكومة والتشكيك بميثاقيّتها والاعتصام المفتوح والخيَم المنصوبة وسط العاصمة، والتي أدت الى شللٍ في الحركة الاقتصادية كما في الحراك السياسي، فيما كانت الرسائل المُراد ايصالها واضحة: ميزان القوة يُراد له أن يميل لصالح من يحتلّ الميدان بقوّة السلاح على حساب من يجلس في السراي بقوّة القانون، وبدا أن حزب لله ومنذ تموز ٢٠٠٦ لم ينجح فقط في أسر الجنديَين الاسرائيليّين بل وفي جعل لبنان بأكمله أسير منطقه وارتباطاته في المنطقة، وغاب شعار «وحدة المسار والمصير» ليحلّ مكانه شعار «وحدة الساحات».



