هل قتل “الحاج حمزة” نصرالله وصفيّ الدّين؟
من أوقَع السّيّد حسن نصرالله والسيّد هاشم صفيّ الدّين في فخّ الاغتيال؟ هل استندَ الإسرائيليّون إلى خرقٍ بشريّ داخل “الحزب”؟ أم التقنيّة كانت هي السّبيل؟ أم هناك تكامل بين الاثنيْن؟
ما حقيقة هروب أحد كبار المسؤولين في “الحزبِ” إلى فرنسا قبيْل اغتيال السّيّد هاشم صفيّ الدّين وآخر إلى الدّاخل الإسرائيلي؟
يتكشّف مع الأيّام أنّ “الحزبَ” بدأ بإمساك خيوطِ الخروقات الهائلة في هيكليّته، التي أدّت إلى انكشافِ قياداته ومقاتليه وحتّى منشآت تصنيع وتخزين أنواعٍ معيّنة من الصّواريخ والذّخائر في الجنوب والبقاع والضّاحية الجنوبيّة لبيروت.
يكشفُ خبيرٌ أمنيّ مُطّلع على هيكليّة الحزبِ لـ”أساس” أنّ أحدَ مسؤولي ما يُعرَف بـ”وحدة الأمكنة”، أو كما تُسمّى في أوساط الحزب بـ”الأماكن”، ويُدعى “الحاج حمزة” السّبلانيّ، كانَ المسؤول عن تسليم إسرائيل كلّ الدّاتا المُرتبطة بأماكن وجودِ المسؤولين في “الحزبِ” في أيّام السّلم، والمقرّات الاحتياطيّة لهم في أيّام الحربِ، والمنشآت القياديّة والعسكريّة السّريّة.
لم يتوقّف الخرقُ عند هذا الحدّ. إذ تبيّن أيضاً أنّ أحد مسؤولي وحدة “الإشارة” (الاتصالات) في “الحزبِ” قد فرّ إلى الدّاخل الإسرائيليّ مع اشتداد الحربِ الإسرائيليّة على “الحزبِ”، كما أنّ عدداً من القياديّين والعناصر تواروا عن الأنظار في الفترة الزّمنيّة نفسها، ومنعهم “الحاج حمزة” الذي تبيّن لاحقاً أنه سافر إلى باريس من المطار.
ما هي وحدة “الأماكن”؟
تُعتبر وحدة “الأمكنة” أو “الأماكن”، التي يرأسها القياديّ محمّد علي بحسون (الحاج عادل) الذي اغتيل في الغارة التي استهدفت صفيّ الدّين، من أكثر الوحدات سرّيّة وحساسيّة في الحزب. إذ يقعُ في اختصاصِ عملها بناء وتخطيط وصيانة وتحديد المراكز والمكاتب والعقارات الآمنة لقيادة الحزبِ من رأس الهرمِ، أي الأمين العامّ، إلى أسفله القياديّ. بالإضافة إلى “المنشآت الاستراتيجيّة” من قواعد ومنشآت عسكريّة ومخابئ عسكريّة.
على سبيل المِثال، يُعتبَرُ عنوان وتفاصيل الدّخول والخروج وحتّى فتحات التهوئة في مقرّ القيادة المركزيّة للحزبِ، حيثُ اغتيل الأمين العامّ الرّاحل حسن نصرالله، من صلب عمل الوحدة. كذلكَ المقرّ العامّ لاستخبارات “الحزبِ” حيث اغتيلَ رئيس المجلس التنفيذي هاشم صفيّ الدّين ورئيس وحدة الاستخبارات حسين هزيمة (مرتضى) في منطقة المريجة، ومعهما مسؤول وحدة “الأماكن” “الحاج عادل”.
بحسب المعلومات، تعملُ “الأماكن” بطريقة معقّدة لا تسمَح لقادة الوحدات الأخرى الاطّلاع على الأمكنة التي تُعنى بها سائر الوحدات. فعلى سبيل المِثال يستطيع قائد عمليّات “وحدة الرّضوان” الرّاحل إبراهيم عقيل أن يطّلع على الدّاتا التي تُعنى بها وحدَته مثل مقرّ الاجتماع الذي استُهدِفَ فيه في 20 أيلول الماضي أو مقرّات تدريب “الرّضوان”. لكنّه في الوقت عينه لا يستطيع على الإطلاق أن يطّلعَ على الأماكن التي تُعنى بها وحدة “نصر” المسؤولة عن عمليّات القِطاع الشّرقيّ في جنوب لبنان.
الوحيدون الذين كانَ لهم الاطّلاع على داتا الوحدة هم: السّيّد حسن نصرالله، ومدير مكتبه وأمين سرّه سمير توفيق ديب (الحاج جهاد)، ورئيس المجلس التنفيذي هاشم صفيّ الدّين، ومسؤول الوحدة محمّد علي بحسون (الحاج عادل)، وعددٌ محدود من مسؤولي الوحدة ومنهم الحاج حمزة السّبلاني.
خوادم لحفظ المعلومات
للحفاظ على سرّيّة معلومات الوحدة كانَت كلّ المعلومات محفوظة في خوادم توجد في مقرّ الأمانة العامّة التي كانَ مقرّها أسفل 6 مبانٍ في منطقة حارة حريك على عمقٍ يزيدُ على 30 متراً. وجديرٌ بالذّكر أنّ مقرّ الأمانة العامّة للحزبِ شيّده وأشرفَ عليه بكلّ تفاصيله مسؤول الوحدة محمّد علي بحسون.
كما تشير معلومات “أساس” إلى أنّ أحد المسؤولين في الحزبِ محمّد سليم (أبو عبدو) الذي فرّ إلى إسرائيل في عام 2010، لم يكن مسؤولاً أمنيّاً كما أشيع حينذاك، بل كان مسؤولاً عن تركيب وصيانة كلّ فتحات التهوئة في المراكز والمقرّات القياديّة والعسكريّة. وهو يعمل ضمن هيكليّة وحدة “الأماكن”. وقد كان بحوزة سليم كلّ خرائط التهوئة والتجهيزات الميكانيكيّة في المنشآت والمراكز، لأنّه المشرف على التركيب والصّيانة، وقد سلّم كلّ الخرائط للاستخبارات الإسرائيليّة.
بعد اكتشاف تهريب بحسون لخرائط التهوئة، تقرّر تغيير وتعديل شبكات التهوئة في المنشآت، والإبقاء على بعضها على حاله من دون اتّخاذ إجراءات واسعة لتغيير المراكز الأساسيّة نظراً لكبر حجمها وصعوبة نقلها، كما أنّ “الحزب” كان يعتقد أنّ عمق المركزين اللذين يوجد فيهما نصرالله وصفي الدّين عصيّ على الاختراق بالقصف.
كذلكَ لم يعُد سرّاً أنّ تل أبيب استطاعت اختراق شبكة الاتصالات الدّاخليّة للحزبِ والتنصّت عليها في الجنوب والبقاع والضّاحية وأيّ بقعة فيها هاتف موصول بالشّبكة. هذا ما دفع مسؤول الأمن الوقائي في “الحزبِ” الشّيخ نبيل قاووق التعميم على كلّ المسؤولين والعناصر تجنّب استخدام الشّبكة إلّا للضرورة القصوى، قبل أن يقع هو ضحيّة “داتا الأماكن” بعد استهدافه داخل شقّة في الضّاحية الجنوبيّة.
المسؤول عن خرق شبكة الاتصالات الأرضيّة كانَ أحد قادة وحدة “الإشارة”، ولا تزال هويّته سرّيّة، لكنّ الأكيد أنّه فرّ إلى داخل إسرائيل. وبسبب الخرق وجّه قاووق بضرورة استعمال أجهزة البيجر أو أجهزة الاتصال اللاسلكيّة ذات الموجة القصيرة للتواصل، على أساس أنّها أكثر أماناً. لكنّه تبيّن في “واقعة البيجر” أنّه حتّى هذه الأجهزة كانت مخترقة ومُتعقّبة ومُفخّخة أيضاً.
تكامل الاختراق في الأماكن والإشارة
مارست إسرائيل تصعيداً تدريجيّاً في اغتيال قادة الحزب العسكريين. بدأت المرحلة الجدّيّة من الاستهدافات بالغارة التي طالت اجتماعاً لعدد من عناصره (الحزبِ) في شهر تشرين الثّاني 2023، وكانَ من ضمنهم سراج رعد (نجل النّائب محمّد رعد) والقياديّ في وحدة “الرّضوان” خليل جواد شحيمي في أحد منازل بلدة بيت ياحون.
تقول مصادر “أساس” إنّ المجموعة المذكورة كانت قد انتقلت إلى منزلٍ جديد قبل ساعات من استهدافها، وذلك كإجراء احتياطيٍّ بعدما استهدفت الطائرات الإسرائيليّة بعض غرف العمليّات في المنطقة الحدوديّة. بعد وصولِ العناصر إلى المنزل المذكور، رنّ جرسُ الهاتف المربوط بشبكة الاتصال الدّاخليّة للحزبِ، وكانَ المُتّصل إسرائيليّاً، وحين تأكّد الإسرائيليّون من وجود العناصر داخل المنزل بعدما ردّ على الاتصال، ضربَت طائرة حربيّة المنزل مباشرةً.
أكّدت هذه الحادثة للحزبِ وجودَ خرقٍ في شبكة الاتصالات الدّاخليّة، أو ما يُعرف بـ”سلاح الإشارة”. أعطت القيادة الأمنيّة والعسكريّة توجيهات لتقنين استعمال الشّبكة الدّاخليّة إلّا للضّرورة القصوى مع اعتماد صيغ مُحدّثة للمحادثات المُشفّرة، والاعتماد أكثر على أجهزة “البيجر” و”اللاسلكي” ذات الموجة القصيرة.
اغتيال ولا هواتف
في حزيران الماضي، استُهدِفَ منزلٌ في بلدة جويّا في ضاء صور، كانَ يوجد فيه قائد وحدة “نصر” طالب سامي عبدالله (أبو طالب) المسؤولة عن عمليّات القطاع الأوسط في جنوب لبنان. وما أثارَ قلق الحزبِ يومها أنّ “أبا طالب” لا يستعملُ أيّ هواتف ثابتة أو جوّالة. ولا يوجد أساساً في أيّ مكانٍ فيه هاتف جوّال. وهذا يُرجّح فرضيّة أنّ إسرائيل كانت تُراقب ما يُفترض أنّه مقرّ سرّيّ لاجتماع أبي طالب مع مسؤولي وحدة “نصر”.
منذ اغتيال “أبي طالب” كرّت سُبحة الاغتيالات الرّفيعة واستهداف المراكز السّريّة مثل مقرّ اجتماع إبراهيم عقيل وقادة “الرّضوان” في الطّوابق السّفليّة لأحد مباني منطقة الجاموس في الضّاحية الجنوبيّة بعد 3 أيّام من “واقعة البيجرز” وإعلان نصرالله أنّ الرّدّ على العمليّة سيكون محصوراً بالدّائرة الضّيقة جدّاً. أكّدَ كلام نصرالله أنّ “الحزبَ” باتَ على قناعةٍ بوجودِ خرقٍ على مستوى غير عاديّ.
جاءَ يوم السّابع والعشرين من أيلول الماضيّ. دوّت في الضّاحية وبيروت وصولاً إلى الجبل سلسلة انفجاراتٍ وُصِفَت بالأعنف منذ بدءِ التصعيد بين الحزبِ وإسرائيل. كانَ الهدف مقرّ القيادة الرّئيسيّ للحزبِ الواقع أسفلَ 6 مبانٍ في الضّاحية الجنوبيّة، حيثُ يوجد الأمين العامّ حسن نصرالله ومعه عددٌ من القياديينَ ومسؤول لبنان وسوريا في الحرس الثّوريّ العميد عبّاس نيلفروشان.
إسرائيل كانت تعلم
استهداف مقرّ قيادة “الحزبِ”، الذي يُعتبرُ سرّيّاً للغاية، يؤكّد أنّ تل أبيب تعلمُ بكلّ مراكزِ الحزبِ وبمداخلها ومخارجها وفتحات التهوئة، ومن يوجد داخلها ومتى. وهذا أعطى مؤشّراً إلى أنّ إسرائيل قد تكون استطاعت أن تخترق قلبَ المراكز بالتنصّت والمراقبة الدّاخليّة، خصوصاً أنّها أعلنت وفاة وأسماء الموجودين مع نصرالله أو مع صفيّ الدّين بُعيد الاستهداف.
يُضاف إلى ما سلف محاولة اغتيال مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق وفيق صفا بغارتَيْن متزامنتَيْن على مبنيَيْن في النّويري والبسطة الفوقا. وهذا يعني أنّ إسرائيل كانت تستهدف المقرّيْن اللذيْن يستعملهما صفا في حالة الحرب أو الخطر بحسب ما هو مُقرّر في وحدة “الأماكن”. إذ لو كانت إسرائيل متيقّنة من وجوده في أحد المبنيَيْن لكانت استهدفت المكان المُؤكّد لا الاثنيْن بالتّزامن.
هل كانت إسرائيل تعتمد تكامل “الأماكن” و”الاتصالات” وما وفّرته “البيجرز” من معلومات؟ أم هناك فصول جديدة قد تتكشّف؟