الهديل

خاص الهديل: ٢٢ شباط ١٩٧١.. ليل ٧ كانون الأول ٢٠٢٤: عمر داخل سورية

خاص الهديل…

بقلم: ناصر شرارة 

لا يتوقف التاريخ حتى لو حصل أن زمن النظام الذي مضى عليه أكثر من خمسين عاماً، انتهى وانقطع نسل التوريث فيه؛ وحتى لو أصبح فجأة زمن الاعتياد على نفس المشهد محل دهشة. 

..صدق أو لا تصدق؛ هناك يوم جديد في سورية؛ يوم خرج من خارج المألوف الذي كان له شكل الإدمان عليه.. وحتى آخر لحظة قبل حصول الدهشة، كان كل شيء ينتظم في فلك سببية علاقة النظام بالحكم؛ وذلك على نحو يشبه القناعة بأن الأرض ولن يحدث شيئاً يوقف دورانها حول نفسها؛ ولكن فجأة خرجت اللحظة من كوكبها، واختفت الصورة من داخل إطارها؛ وداهم عادة الإدمان فكرة شاردة.. ولاحظ الجميع في اليوم التالي ذلك حينما صدرت جريدة الصباح من دون صورته؛ وحينما ظهر بوليس الإشارة الضوئية وليس على وجهه ظله؛ وحينما انسحب طيفه خرج من غرفة نوم الأولاد ومن ثنايا حقائب التلاميذ ومن داخل رفوف المحال. اختفى فجأة؛ وقبل لحظة كان وجوده له فعل الإدمان وكان هو كل شيء!!.. 

خرج يوم جديد في سورية من بين مفاصل انتظام ملل الأيام الماضية المتشابهة. وانبعثت من داخل اليوم الجديد صدمة؛ ثم صحوة؛ ثم بخطوات مستعجلة بدا أن تلاميذ المدارس لم ينسوا أن يدخلوا إلى صفوفهم كما يفعلون كل يوم ولكنهم هذه المرة خلعوا ثوب الطلائع الرسمي؛ وللتو فتحوا صفحة كتاب اليوم من حيث درسوا أمس آخر كلمة.. للغرابة أن أحداً لا ينتبه إلى أن أمس كان ينتمي لفترة السنين الخمسين التي مرت.. لفترة حقبة انتهت لتبدأ مرحلة يشتبه بأنها جديدة.. ومنذ هذه اللحظة يستحيل كل شيء إلى جيلين إثنين داخل العمر السوري الواحد.. 

..على شرفته هناك إناء زرع فيه زهر ياسمين.. إنه رجل يسمى مواطن، وإلى جانبه عصا يسميها عكازه؛ وبين شفتيه سؤال لنفسه يدور حول رأسه، وهو بدوره يجير الإجابة عنه لعكازة عمره ولياسمينة شرفة صباحه: هل صحيح أن اليوم هو ٨ كانون الأول ٢٠٢٤؟؟!.

يخال المواطن أن عكازه يكلمه ويجيبه: يالك من مواطن تختلط عليك الأحداث.. تبصر جيداً.. هل تتذكر؛ حسناً لا تتفاجأ إن كان النهر يستمر بالجريان؛ كل ما عليك فعله أن تبدأ من جديد.. مثلاً حاول أن تنظر بحرية وبشغف إلى حيث تريد؛ وسوف ترى ما تريد: هناك عصفور يرمي حبة قمح من بين منقاريه؛ وليس بعيداً عنه هناك طفل يرمي ابتسامته في حضن أمه!!..

يا لك من مواطن لا زلت تخاف أن تنظر جيداً، وما زلت تخاف أن تتذكر بكل وضوح الحقيقة التي ولدت وهي أن هذا اليوم هو ٨ كانون الأول ٢٠٢٤..

.. “حقاً”، يؤكد لنفسه أنه فعلاً وصل إليه خبر أن يومه هذا، أتم كل عمره وبلغ سنه ٨ كانون الأول ٢٠٢٤.. ومن على شرفته التي يطل منها إلى ساحة الأمويين؛ يمكنه كالعادة أن يرى من مقعده جموع الحمالة المتعبين؛ وبالصدارة يظهر شرطي السير عينه ذي الهيبة التي هرب منها هذا اليوم إدمان تكرار صباحات الأعوام الخمسين.. من على هذه الشرفة ذاتها يأخذه عكازه وهو لا يزال مكانه؛ إلى التاريخ وهو يتجرأ أن يفتح أمام بحر عينيه روزنامة التوقيت؛ ويلاحظ أنه صار يمكنه أن يشاهد بكل حواسه صوت الكلمات كصدى نحاسي يتراجع في أذنيه: أمس كان ٢٢ شباط ١٩٧١؛ اليوم ليل ٧ كانون الأول ٢٠٢٤؛ وغداً ٨ كانون الأول ٢٠٢٤.. هي حكاية عمر داخل سورية وعن سورية.

يتذكر .. كعادته يكلم نفسه، ولكن هذه المرة بصوت مسموع: حقاً إنني عشت كل هذا الوقت.. ياللغرابة: هل علي أن أبدأ عمري من جديد!!.

Exit mobile version