خاص الهديل…
بقلم: ناصر شرارة
بعد سلسلة الاستقلالات التي نالتها البلدان العربية إثر الحرب العالمية الثانية وانسحاب الانتدابات الفرنسية والإنجليزية عن المنطقة، وتفكك الإمبراطورية العثمانية؛ شُكلت الجيوش العربية الرافعة لبناء الدولة الوطنية.
.. وفي كثير من البلدان العربية كان وجود الجيوش الوطنية فيها قد سبق إعلان استقلالها، كحال الجيش في مصر مثلاً الذي يسمى “بالجيش القديم” حيث يعود تاريخ إنشائه إلى عام ٣٤٠٠ ق.م؛ وحتى الجيش في لبنان؛ فإن بدايات تأسيسه تعود لعام ١٩١٦ عندما أسس الانتداب الفرنسي “جيش الشرق”؛ ثم لاحقاً تم إعلان التأسيس الرسمي للجيش اللبناني بعد عامين من الإستقلال. أضف أن الجيش السوري تأسست نواته عام ١٩٢٠ وكان موعد تأسيسه الرسمي عام ١٩٤٨، الخ..
وفي كثير من الدول العربية كان الجيش هو المؤسسة الوطنية التي تتمثل فيها حصراً تقريباً “الطبقة الوسطى” (صف الضباط والضباط) وسط أن الغالبية العامة من الشعوب العربية كان يقع ترتيبها الاجتماعي ما دون الطبقة الوسطى.
وعليه فإنه يمكن القول انه بالغالب قامت الدولة الوطنية في العالم العربي على أكتاف الجيوش الوطنية التي كانت ترمز لأمرين هامين أساسيين: مشروع الدولة الوطنية واستقلالها؛ ومشروع الطبقة الوسطى وطموحاتها.
ولكن لماذا العودة الآن للحديث أو استذكار الدور التاريخي للجيوش الوطنية في الدول العربية؟؟.
لعدة أسباب:
أولاً – بمناسبة ما يحدث اليوم في سورية، حيث تقوم إسرائيل بانتهاز أحداث الوضع الداخلي في سورية؛ وتنفذ ما يصفه الإعلام العبري بأكبر حملة جوية بتاريخ إسرائيل، هدفها تدمير كل ترسانة سلاح الجيش العربي السوري!!.
لا يوجد ربط بين نظام الأسد في سورية وبين الجيش العربي السوري؛ فكل منهما من منبت؛ فالجيش السوري هو مؤسسة وطنية عربية؛ وهو تاريخياً يعتبر شقيق الجيش العربي المصري؛ ولفترة طويلة كان الجيش السوري هو أيقونة القوة العربية العقائدية القومية.
وما لا يتم الإلتفات إليه في هذه اللحظات هو أن تدمير إسرائيل لترسانة أسلحة الجيش العربي السوري يعني عدة أمور هامة واستراتيجية وخطرة؛ ولعل أبرزها أن ما يحصل هو ليس فقط تدمير جيش دولة وجعلها منكشفة أمام الأخطار الأمنية الداخلية والأخطار العسكرية الخارجية؛ بل بمعنى استراتيجي آخر فإن تدمير إمكانيات الجيش العربي السوري التسليحية يعني تدمير إمكانيات الجيش الثاني المصري؛ ذلك أنه حسب العقيدة العسكرية المصرية فإن الجيش السوري هو الجيش الثاني إلى جانب الجيش المصري الأول.
.. دائماً كان الأمن العربي لديه جناحان؛ الجيش المصري والجيش السوري؛ ودائماً نظرية الدفاع العربي بوجه العدوانية الإسرائيلية، كانت لديها جبهتين إثنتين: الجبهة الجنوبية وعليها النسر العربي المصري، والجبهة الشمالية ويحميها النسر العربي السوري.
لقد انكسر اليوم أحد جناحي الأمن العربي؛ ومن فعل ذلك هو إسرائيل التي تنظر إلى سورية من زاوية انها تمثل خط الدفاع الشمالي عن الأمن العربي، وعلى أنها الصلة الاستراتيجية مع خط الدفاع الجنوبي المصري عن الأمن العربي.
مرة أخرى هناك خط فاصل بين نظام الأسد وبين الجيش العربي السوري؛ فالأخير يرمز للدولة الوطنية والقومية العربية في سورية، بينما نظام الأسد يرمز لمعنى ديكتاتوري.
ثانياً- مناسبة الحديث عن دور الجيوش العربية في بناء الدولة الوطنية، يعود في هذه اللحظة إلى حقيقة أنه يجب التنبه لضرورة أن لا يتم تكرار ما حصل في العراق في سورية، وذلك لجهة تدمير الجيش الوطني السوري تحت حجة أنه جيش النظام البائد والنظام الذي اضطهد شعبه.
إن هذا النوع من التفكير لا يؤدي إلى تدمير بقايا النظام، بل إلى تدمير البلد والدولة والوطن. مرة أخرى يجب تذكر أن الدولة الوطنية في البلدان العربية قامت على أكتاف مؤسسات الجيش؛ وعليه فإن المطلوب هو الحفاظ على الجيش واعتباره مؤسسة وطنية عابرة للحقب السياسية المتغيرة؛ فالأنظمة تتغير والجيش الوطني يبقى ليواكب مهمة الدفاع المقدس عن الوطن في كل الحالات وكل الظروف.
ما حصل خلال اليومين الماضيين هو أن إسرائيل دمرت ترسانة الجيش السوري؛ وفي ذهن إسرائيل ليس فقط جعل الجيش السوري هيكلاً عظمياً؛ بل بالأساس تبرير بروز منطق داخل سورية يقول انه طالما أن الجيش أصبح عديداً من دون عتاد، فلماذا نحافظ عليه؛ ولماذا لا ندمره ونفككه ونبني جيشاً جديداً!!.
إن أخطر ما في هذه المقولة هو أمران إثنان:
الأول أنه يستجيب عن قصد أو من دون قصد لغاية إسرائيل النهائية من تدمير ترسانة الجيش العربي السوري، وهي تدمير هذا الجيش بذاته؛ وتدمير الذاكرة الوطنية عنه؛ وتدمير سيرته داخل سيرة الأمن العربي، الخ.. فإسرائيل تعلم أنه يمكن للجيش العربي السوري أن يشتري بدل سلاحه الذي دمرته، ولكن في حال تم بقرار سوري تفكيك هذا الجيش فإنه يستحيل إعادة بنائه.
إن تجربة تدمير الجيش العراقي من قبل الأميركيين وبطلب من إسرائيل، لا تزال نتائجها ماثلة لكل سوري يريد أن يعتبر..
الأمر الثاني يتصل بأن الجيش العربي السوري هو رمز للدولة الوطنية في سورية؛ وهو آخر مؤسسات هذه الدولة بغض النظر عن التدخلات السياسية التي حصلت بداخلها؛ وعليه فإن هدم هذا الجيش سيعني أمراً واحداً وهو أن سورية ذاهبة لاستبدال فكرة أن يكون لها جيش وطني، بفكرة أن يكون لها ميليشيات وشراذم عسكرية ونظام دفاع لا يرقى إلى مستوى يعبر عن وجود دولة وطنية مستقلة.