خاص الهديل…
منذ بدء عملية “ردع العدوان” التي دشَّنتها فصائل المعارضة السورية صباح الأربعاء في 27 من الشهر الماضي، أحرزت الفصائل المنضوية تحت “إدارة العمليات العسكرية” بقيادة أحمد الشرع (الملقب بأبي محمد الجولاني) تقدما ميدانياً بالغ الاتساع في وقت قياسي، حيث لم يسبق لمعارك الثورة السورية أن حُسمت بهذا القدر من السرعة، منتقلة من إدلب إلى حلب وصولاً إلى حماة المنيعة وحمص بين طرفة عين وانتباهتها، ومن ثم الدخول إلى العاصمة دمشق، وكأنها تطوي الأرض طياً.
تحرك الفصائل السورية ضمن إطار غرفة إدارة العمليات العسكرية بهذه الدقة والسرعة، بالتأكيد لم تأتي ثمارها بسقوط نظام الأسد إلا ضمن تكتيك عالي المستوى، بغض النظر عمن يقف خلف هذه العملية، فما يمكن ذكره هو أن رجلاً يُلقب بأبو محمد الجولاني ” أحمد الشرع” أصبح اليوم العنوان العسكري والسياسي الأبرز للمعارضة السورية يقيادته لهذه العملية الخاطفة والتي انتهت بسقوط الأسد وهروبه؛ ورغم أن الشرع ليس شخصاً غريباً على الأضواء في السنوات الأخيرة، فإن تاريخه القريب جعله محل جدل كبير، فمَن يكون أحمد الشرع حقاً؟ وكيف تطورت أفكاره وشخصيته؟ وكيف يرى سوريا في مرحلة ما بعد الأسد؟
على خلاف الصورة النمطية للقادة السياسيين، وبخلاف التصور المعتاد حول المقاتلين أيضاً، يمتلك الرجل الذي يتردد ذكره على الساحة السورية الآن، حضوراً إعلامياً جيداً ظهر في المقابلات القليلة التي أجراها، وهو متحدث هادئ ومفوَّه، ما مَكَّنه من تقديم نفسه ورسائله بشكل جيد مؤخراً، لكن هذه الصورة التي يبدو عليها ليست وليدة اليوم، وإنما سبكتها التجارب على مدار أكثر من عقدين.
الشرع وفي مقابلته الأخيرة مع شبكة “سي إن إن”، حرص على تقديم الفترة التي قضاها في حياته بين التنظيمات التي توالت في العراق وسوريا، بوصفها حقبة ولَّت من حياته، مؤكداً أن أفكاره الحالية لا تتشابه مع التنظيمات التي انتمى إليها يوماً ما، وأنه لم يشارك يوما في ترويع أو استهداف المدنيين، وأن نضاله اليوم يسعى إلى تحرير سوريا فقط.
فاجأ الشرع في مقابلته مع الصحفي الأميركي “مارتن سميث” في نيسان 2021، عندما خرج مرتدياً “بدلة” حديثة مختلفة عن الزي العسكري أو العمامة التي اعتاد الظهور بها، حيث قام بتوجيه رسائل هادئة إلى المجتمع الدولي مطالباً بإعادة النظر في إدراج الهيئة على قائمة التنظيمات الإرهابية، ونافيا بشدة نيته محاربة الولايات المتحدة والغرب، وأشار أيضاً في اللقاء نفسه إلى أن مقاتلي هيئة تحرير الشام لم يترددوا في مواجهة تنظيم الدولة عسكرياً!
على عكس التنظيمين اللذين يتبنيان رؤية عالمية كتنظيم الدولة والقاعدة.. لم تظهر دلائل طوال السنوات الماضية على أن الشرع حاول تنفيذ أية عمليات خارج سوريا، ولو ضد الدول التي تدخلت لدعم الأسد مثل روسيا وإيران، وتعمد إرسال رسائل عدة بأن هدفه هو تغيير نظام الأسد فقط، دون الإضرار بمصالح أي أطراف أخرى، محاولا بذلك تفادي تصنيفه ضمن تنظيمات “الجهاد العالمي”. بيد أن الشرع وتنظيمه بقيا مصنفين على قوائم الإرهاب الأميركية، لكن في مستوى دون تنظيمات الدولة والقاعدة، ومن المحتمل أن يكون ذلك أحد أسباب تجنب الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة استهدافه شخصياً أو استهداف عناصر تنظيمه.
وفي حين يثق البعض بأن خطاب أحمد الشرع (الجولاني) وأداءه الميداني يثبتان بالفعل جدية تحولاته الفكرية وتطور مهاراته السياسية، يتشكك آخرون في مدى وصول هذه التحولات إلى درجة من الثبات والاستمرارية، وأنها لم تكن مجرد عملية تكيُّف براغماتية مؤقتة. وردا على سؤال حول ما إذا كانت تقلباته الفكرية قد وصلت إلى نهايتها أم أن ثمة تقلبات أخرى قد تأتي لاحقا، يقول الشرع في مقابلته مع “سي إن إن” في 6 ديسمبر/كانون الأول 2024: “إن الأفعال هي التي ستُثبت جدية تحولاته الفكرية وليست الأقوال”.
الجانب الطائفي الذي مَثَّل سمة من سمات المشهد السوري خلال السنوات الماضية، فقد ابتعد عنه خطاب الشرع، مشيراً إلى أن المواطنين السوريين المسيحيين في حلب يعيشون بأمان بعد سيطرة المعارضة على المدينة، كما شدد على توجيه رسائل طمأنة إلى العلويين والدروز والإسماعيليين والأكراد، تطمئنهم على مستقبلهم، وتشدد على أنه لا يحق لأحد أن يلغي وجود طوائف أو قوميات أو يهمشها، وأن حكم القانون يُفترض أن يسود على الجميع.
لم يتردد الشرع في أن يصدر القرارات الحازمة بعد أن سيطرت قوات ردع العدوان على العاصمة دمشق، بإصدار عدة قرارت، جعلت منه محل طمئنة لمن كان لديه أدنى شك في أن هناك فوضى ستحدث لا محالى، فأصدر الشرع عدة قرارت منها: أنه أي تهديد أو محاولة لتصفية الحسابات بين المواطنين سيُعاقب عليها بالسجن لمدة سنة كاملة، وأكد على ضرورة التكاتف والابتعاد عن أي خلافات تعرقل بناء سوريا الجديدة؛ لا يحق لأي شخص المطالبة بدماء الشهداء، فالشهداء قدموا أرواحهم لتحرير الوطن، وليس لتصفية الحسابات أو المطالبة بالثأر، وممنوع تماما استخدام عبارة: “د ماء الشهداء مقابل بيت أو أي شيء آخر”، فالشهيد قدم حياته في سبيل الله وليس لأغراض شخصية.
وأيضاً قراراً بتحديد كمية الخبز المسموح شراؤها بـ4 ربطات فقط لكل شخص في اليوم؛ إعلان حظر تجوال كامل يشمل الحظر المدن التالية: دمشق وريفها واللاذقية وطرطوس من الساعة 5 مساء حتى الساعة 5 صباحا وسيعاقب المخالف بالحبس لمدة شهر”.
وأيضاً من القرارت منع منعاً باتاً التدخل في لباس النساء أو فرض أي طلب يتعلق بملابسهن أو مظهرهن، بما في ذلك طلب التحشّم، مؤكداً أن الحرية الشخصية مكفولة للجميع، وأن احترام حقوق الأفراد هو أساس بناء وطن متحضر.
وفيما يخص الإعلاميين قرر بمنع التعرض للإعلاميين العاملين في التلفزيون السوري، الإذاعة السو.رية، وصفحات التواصل الاجتماعي ويُمنع توجيه أي تهديد لهم تحت أي ظرف، وفرض عقوبة الحبس لمدة سنة كاملة لكل من يخالف هذا القرار.
كل هذا القرارات التي خرجت من الشرع والتعامل الذي جرى مع أهالي المدن التي حررها من نظام الأسد وطمئنة الأقليات في سوريا وحمايتهم، جعلت من أميركا بحسب صحيفة واشنطن بوست، إعادة النظر في مسألة إزالة هيئة تحرير الشام والجولاني من على لائحة الإهارب، فالرئيس الأمريكي المنتهية صالحيته في تعقيبه على ما يجري في سوريا، وتعامل الفصائل مع الوضع الراهن إلى أن الأفعال ستبين لنا في الأيام القادمة كيف سنتعامل مع ما يجري.
نهاية القول، الثورة السورية، وما رافقها من صراعات عسكرية وتدخلات خارجية، وضعت ما تبقى من البلاد على أتون من الانشطارات الطائفية والمناطقية، وتدهور اقتصادي حاد وقطاع مصرفي آيل للسقوط، ومؤسسات سياسية وأمنية ينخر فيها العطب والفساد، فضلا عن تعدد الفصائل المسلحة واحتمالية نشاط الكثير من الخلايا الكامنة، فهل سيكون أحمد الشرع “أبو محمد الجولاني” في أن يكون رجل المرحلة القادمة لسوريا؟؟