خاص الهديل…
بقلم: ناصر شرارة
نظم الجيش الإسرائيلي أمس جولة لوسائل الإعلام الإسرائيلية في المنطقة الجديدة التي احتلتها إسرائيل خلال الأيام الأخيرة داخل الأراضي السورية.
وتم خلال الجولة الإيحاء بقضية غاية في الأهمية بالنسبة لإسرائيل، وهي أيضاً بذات الوقت غاية في الخطورة بالنسبة للعرب – إن جاز استخدام هذا الوصف – وبالنسبة للسوريين بخاصة وللبنانيين بدرجة ثانية.
وهذه القضية التي سربتها إسرائيل إيحاءً وتلميحاً وليس إفصاحاً تم توجيهها من فوق تلال جبل الشيخ الذي انسحب منه الجيش العربي السوري واحتله الجيش الإسرائيلي خلال الأسبوع الماضي الذي شهد “دراما” انهيار حكم عائلة الأسد؛ ومفاد هذه القضية هو أن المنطقة عادت إلى لحظة حزيران ١٩٦٧ الذي يسميه العرب عام النكسة، وهي لحظة شهدت فعلياً أكبر انتصار عسكري لإسرائيل على كل جيوش الدول العربية مجتمعة؛ وأدت إلى تنصيب إسرائيل كدولة مركزية في الشرق الأوسط لديها جيش لا يقهر.
والواقع أن وجه الشبه بين إسرائيل حزيران العام ١٩٦٧ وبين إسرائيل كانون أول ٢٠٢٤، وذلك كما بدت أمس من فوق تلال جبل الشيخ، هي أوجه كثيرة حسبما تعمد الإعلام العبري إظهارها خلال جولة الصحفيين في المنطقة السورية المحتلة للتو (كانون أول ٢٠٢٤) والتي أضافتها إسرائيل إلى منطقة الجولان السورية المحتلة عام ١٩٦٧.
أحد هذه الأوجه تقصد إظهار أن الجيش السوري في يناير ٢٠٢٤ لم يطلق رصاصة واحدة بوجه الجيش الإسرائيلي الذي تقدم ليحتل مواقعه في جبل الشيخ؛ الأمر الذي يكرر مشهد انسحاب الجيش السوري من دون مقاومة تذكر من الجولان في حزيران العام ١٩٦٧.
لقد تعمد الإعلام العبري أيضاً إظهار ملابس رثة ومقطعة لجنود سوريين انسحبوا من مواقعهم على جبل الشيخ وبالمقابل أبرزوا صوراً لجنود إسرائيليين وهم بأسلحتهم المتطورة وبثيابهم العسكرية التي قد تكون الأغلى ثمناً في العالم؛ وكل ذلك هدفه استعادة صورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر بمقابل إعادة الجندي والمقاتل القائد العربي إلى داخل إطار صورة النكسة أو الهزيمة للعام حزيران ١٩٦٧.
وتحت صورة الجندي الإسرائيلي الذي وصل بعد حروبه على ٧ جبهات إلى احتلال واحد من أعلى جبال المنطقة؛ أي جبل الشيخ؛ قال الإعلام العبري لو قالت إسرائيل قبل عام أن جيشها الذي فُتحت بوجهه ٧ جبهات سيستطيع بنهاية المطاف الوصول إلى هذه القمة؛ هل كان أحد في الشرق الأوسط سيصدق ذلك؟؟ الآن الجميع في الشرق الأوسط بلعوا ألسنتهم(!!)؛ وهم باتوا على قناعة أن عليهم ألا يجربوا بعد اليوم قوة إسرائيل..
واضح أن نتنياهو اختار أن يكون توقيت جولة الصحافة الإسرائيلية على قمم جبل الشيخ متزامناً مع موعد جلسة إدلائه بشهادته لليوم التالي أمام المحكمة بتهمة ارتكابه فساداً وتلقي زوجته رشاوة…
ولكن التوقيت حمل أيضاً أبعاداً أعمق إذ اشتغل على توجيه رسائل للمنطقة ولسورية وللبنان وحتى لإدارة ترامب القادمة:
الرسالة الموجهة لسورية واضحة وهي أن تل ابيب ستبقى بجبل الشيخ وسوف تظل متمركزة عند حدودها الجديدة مع سورية؛ أي عند النقطة التي تبعد مسيرة ٣٠ كلم عن دمشق، حتى تتأكد (أي إسرائيل) أن الحكم الإسلامي الجديد في سورية لا يحمل أيديولوجيا ضد إسرائيل؛ ولن يحمل بندقية ضد إسرائيل؛ ولا يؤمن بأية صلة بين جامع الأمويين في دمشق والمسجد الأقصى النبوي الشريف في القدس.
.. ما تقدم هو مضمون الرسالة الإسرائيلية لسورية الجديدة حتى الآن؛ ولكن مضمون هذه الرسالة قد يتغير – على الأغلب – على مدى زمني أبعد بحيث تضع إسرائيل شرطاً على الطاولة يقول انها مستعدة للتنازل عن الجزء المحتل عام ٢٠٢٤ من الأراضي السورية مقابل سلام سوري مع إسرائيل.. وبهذا المعنى أصبحت القضية السورية لديها تاريخين: التاريخ الأول يخص أراضٍ سورية محتلة عام ١٩٦٧ وهذه أراضي أعلن ترامب سابقاً ويعلن أمس نتنياهو مجدداً انها أراض إسرائيلية لا تنازل عنها؛ والتاريخ الثاني يخص أراضي سورية محتلة عام ٢٠٢٤ وهذه قابلة للتفاوض عليها مقابل موافقة سورية على سلام بشروط إسرائيلية..
بمعنى آخر أصبح مفهوم أراضي الـ٤٨ الفلسطينية التي لا تفاوض عليها، بمقابل وجود أراضي الـ٦٧ التي يمكن التفاوض عليها من منظار بعض إسرائيل وليس كلها، مطبقاً اليوم على سورية التي بات لها أيضاً اراض لا تفاوض عليها هي أراضي ٦٧ وأخرى محتلة يمكن التفاوض عليها من وجهة نظر بعض إسرائيل وليس كل إسرائيل، وهي أراضي ٢٠٢٤.
نفس المنطق يتم أخذ لبنان إليه في هذه الآونة، حيث هناك أراض لا يمكن التفاوض عليها وهي مزارع شبعا – بغض النظر عن الأسباب – فيما هناك أراض يمكن التفاوض عليها مقابل سلام الـ١٧٠١؛ وهي أراضي الحافة الممنوع عودة سكانها اللبنانيين إليها حتى تتأكد إسرائيل من تطبيق “سلام الـ١٧٠١”.
تريد إسرائيل إعادة صورتها لمكانة العام ١٩٦٧؛ خاصة وأنه بعد ٧ أكتوبر٢٠٢٣ برز تيار بحثي في الولايات المتحدة الأميركية أطلق على نفسه تسمية “التيار الواقعي”؛ وانتقد هذا التيار عدم الرشد والنضج في عقلية القيادة الإسرائيلية الحاكمة. واعتبر هذا التيار أنه من فترة الـ١٩٤٨ لغاية ١٩٦٧ كان هناك قيادة إسرائيلية ناضجة تعرف كيف تجمع رصيداً استراتيجياً لإسرائيل؛ ولكن منذ حرب الـ٦٧ لغاية قيادة نتنياهو الحالية برزت قيادة إسرائيلية غير ناضجة قامت عن غباء، بصرف رصيد إسرائيل الاستراتيجي؛ ذلك أن حرب الـ٦٧ الذي ظنته إسرائيل انتصاراً كان في الواقع بداية الطريق نحو إثارة مشكلة عدم القدرة على السيطرة على ديموغرافيا فلسطينية ستبتلع الديموغرافيا اليهودية الإسرائيلية.
وخلال الأشهر التي تلت عملية ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ راجت هذه النظرية الواردة أعلاه التي قال بها باحثو التيار الواقعي الأميركي. ولكن نتنياهو أراد أمس من خلال تصوير جنوده وهم يقفون على قمة جبل الشيخ القول: ان التيار الواقعي الأميركي الذي انتقد قيادته، ثبت اليوم أنه غير واقعي!!.