خاص الهديل…
قهرمان مصطفى…
يبدو أن منطقة شمال شرق سوريا أصبحت الأكثر تعقيداً في المشهد السوري الحالي، حيث تمثل نقطة التقاء العديد من القوى الإقليمية والدولية؛ ويبدو أن الأكراد هم مركز هذا التعقيد؛ فهذه المنطقة التي تُعد غنية بالموارد الطبيعية، أبرزها النفط، شكلت أرضاً خصبة للأكراد الذين يطمحون إلى تحقيق استقلالية جزئية تحت مظلة “الإدارة الذاتية” و “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي تحظى بدعم أميركي قوي. إلا أن الوضع السياسي والعسكري هنا أكثر تعقيداً مما يبدو، حيث تواجه “قسد” تحديات مزدوجة من الحكومة السورية الجديدة وتركيا، اللتين لا تزالان ترفضان أي نوع من أنواع الانفصال أو الاستقلالية في المنطقة.
الأكراد يولون أهمية خاصة للمنطقة، ليس فقط بسبب الموارد الطبيعية مثل النفط، بل لأنها تشكل امتداداً جغرافياً لوجودهم في إقليم كردستان العراق؛ فهذه المناطق تشكل جزءاً من حلمهم في إقامة دولة كردية تمتد عبر المثلث الذي يجمع تركيا وسوريا والعراق. وبدعم أمريكي، تحققت هذه السيطرة الاستراتيجية على مناطق غنية بالموارد، في سياق التحالف الدولي الذي تشكل لمواجهة “داعش” وتنفيذ أجندات اقتصادية وسياسية.
حتى الآن، لم تتوصل الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا إلى تسوية سياسية مع الحكومة السورية الجديدة، إذ تظل العلاقة بين الطرفين غامضة، رغم وجود إشارات من الجانبين تدل على نوع من “الإيجابية”. إذ تشير المعلومات إلى الآن أن الإدارة الذاتية لم ترسل وفداً رسمياً إلى دمشق بعد، لكن يرى مراقبون أن قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع لا يحمل عداءً تجاه الأكراد، بعكس بعض الفصائل المقربة من تركيا في شمال حلب. وبالرغم من هذه العلاقة “الضبابية”، فإن تصريحات الأكراد تشير إلى دعمهم لوحدة الأراضي السورية واستعدادهم للتفاوض مع الحكومة المركزية.
بدورها الحكومة السورية الجديدة في دمشق وجهت رسالة واضحة الى “قوات سوريا الديموقراطية”، إما تسلّم مناطقها ومؤسسات الدولة وتنخرط بصورة كاملة وتتخلى عن ارتباطها بحزب العمال الكردستاني، أو ليس أمامها سوى القتال. ومن جهة اخرى تركيا تضغط بصورة متزايدة لتحقيق أهدافها الأمنية، وتحديداً تأمين حدودها في ظل تزايد قوة “قسد” وتعاظم تسليحها وتدريباتها، معتبرةً أن هذه القوة تخضع بصورة كاملة لأمرة قياديي حزب العمال الكردستاني وهو ما يشكل خطراً بالغاً على الأمن القومي التركي.
ولكن بالرغم من كل هذه التعقيدات، وأيضاً الوساطات والحديث الأميركي حول اتفاقات الهدنة، تُنفي تركيا عدم وجود أي اتفاق هدنة مع “قسد”. ومع ذلك، تواصل تركيا حشد قواتها وحلفائها من الجيش الوطني السوري على الحدود قرب مدينة عين العرب/كوباني، في مشهد يعكس تصميمها على إزالة ما تعتبره خطراً وجودياً يمثله حزب العمال الكردستاني؛ وعلى ما يبدو يبدو أن أنقرة تسعى الى استغلال الأيام الأخيرة من ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن، وربما تتوغل عسكرياً في الأيام الأخيرة من حكمه. ويُعتقد أنها قد تجد في عودة الرئيس السابق دونالد ترامب فرصة لعقد صفقات جديدة تضمن استمرار ضغوطها وإنهاء مشروع حزب العمال الكردستاني في سوريا.
على المشهد الآخر من الجنوب السوري، وبالتحديد في محافظة حمص، تبرز أهمية المواقع الاستراتيجية مثل قاعدة التنف الأميركية وأيضاً معبر البوكمال في الجنوب الشرقي. قاعدة التنف، التي تقع عند الحدود بين سوريا والأردن والعراق، تمثل نقطة انطلاق للوجود الأمريكي في المنطقة، في محاولة لاحتواء الأنشطة الإيرانية والمجموعات المرتبطة بها. أما معبر البوكمال فهو ممر حيوي للتمويل العسكري، وله دور كبير في تحركات الأسلحة من العراق إلى سوريا ولبنان، وقد تعرض لعدة غارات إسرائيلية.
بجانب المواقع الاستراتيجية مثل قاعدة التنف الأميركية وأيضاً معبر البوكمال في الجنوب الشرقي. قاعدة التنف، التي تقع عند الحدود بين سوريا والأردن والعراق، تمثل نقطة انطلاق للوجود الأمريكي في المنطقة، تمتلك منطقة شرق سوريا أهمية اقتصادية استراتيجية، مثل النفط الذي يُعد مصدر دخل أساسي، بالإضافة إلى نهر الفرات الذي يشكل شريان الحياة المائي، وأيضاً المعابر الحدودية مع العراق، والتي تمثل طرقاً تجارية رئيسية وسهلاً لتبادل النفط والسلع.
المستقبل في شمال شرق سوريا يعتمد على عدة عوامل متداخلة، منها موقف الولايات المتحدة وتركيا والحكومة السورية الجديدة. إذ إن استمرار الدعم الأميركي لقوات “قسد” قد يعزز استقلاليتها، ولكنه في الوقت نفسه يفاقم التوترات مع تركيا والحكومة الجديدة. وفي المقابل، تبقى هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية سياسية تُرضي جميع الأطراف، شريطة أن تكون هناك رغبة حقيقية في التفاوض وتقديم التنازلات من جميع الأطراف.
في المحصلة، منطقة شمال شرق سوريا ليست فقط ساحة صراع بين الأكراد والحكومة الجديدة، بل هي أيضاً مركز مصالح دولية معقدة، تتداخل فيها الأبعاد العسكرية والاقتصادية والسياسية. وفي ظل هذه التحديات، يظل الأمل في التوصل إلى حل شامل يضمن الاستقرار ويحترم حقوق جميع المكونات السورية قائماً، لكن الطريق إلى هذا الحل ربما طويلاً.