شيخة غانم الكبيسي
اختلط الحابل بالنابل
نقلاً عن الشرق
ينطقُ قَلمي حبراً بما لا أبرعُ في التعبير عنه أحياناً، فهو لساني الصامت ومترجم خواطري… حضني الدافئ في الليالي الشتوية ومظلة أشواقي الصيفية… يستعبدني ويفضح أسراري… يجعلني أعيش صراع أسئلة بلا إجابات وأستجدي حكمة شاقة على الكثير من العقول العاقة… لست أول من تضرع له ولن أكون أفضلهم، فمجال الكتابة فسيح لكل قلم يفيض بثمرات الألفاظ وبحاره شاسعة للسباحة في فضاء الحروف والعبارات، لذا فمنا من سقط بمستنقعاتها وصارعته فقراتها أو هزمته حركاتها ليتوه بين المفردات وتغلبه المصطلحات كما كذلك هناك من سن قلمه وتعارك مع ذاته وهذب أفكاره ليحتل مكانته بين الجحافل الثائرة.
إلا أنه بنهاية المطاف هناك من اجتهد وأصاب وهناك من تهافت وخاب ويا ليت من سقط استوعب خيباته ولملمها بل كابر وعافر وسط تصفيق من هم على شاكلته، ليرتفع صوت التطبيل ويزداد الهتاف والتبجيل في جوقة الفساد الأدبي.
كل ذلك لم يمنع أقلاماً عديدة من محاولة تجربة هذا المسار الذي خُيل لهم بأنه سيتوجهم بشرف المهنة لمجرد أن أقلامهم سال لعابها على حفنة أوراق وتصدرت الصفحات أسماؤهم.
ليصبح بالنهاية القلم هو المتهم الوحيد الذي يتلاعب به المحلفون (وما أكثرهم)، ينزهونه تارةً ويجرمونه تارةً أخرى، نزيفه عار ومداده مُستهجن حتى كاد تنفسه فساداً، يصدرون الأحكام قبل تداولها ويصفقون لحبال المقاصل ثم يتوارون عن الأنظار كي لا تشملهم عقوبة موت قلم ما على صفحاتهم.
ورغم ذلك ما زال هناك من يُحارب فلا يتوقف ولا ينحني، صامداً بوجه كل الخيبات، يسير بأقدام عارية وسط القيعان ليصل لنقطة التقاء تُرضي غروره قبل أن تلاقي استحسان جمهور يُصفق لكل من اعتلى خشبة مسرح أو تاجر بقضايا مصيرية وعبث بجراح يعجز التعبير المُصطنع عن مداواتها.
لعلهم دون قصد أحيوا أقلاماً قبل أن تموت – شكر الله سعيهم- ولكنهم في ذات الوقت أغفلوا بجهالة عن قسم الله بهذا القلم وبما يَسطُرُون فضاعت بوصلتهم وسط زحام الأفكار واختفى من طرحهم بريق الإدراك، استخدامهم لهذه الأداة تشتت بين الهدم والبناء، حتى بات إصلاح الابتذال في حد ذاته ابتذالاً وإن كان عليك القضاء عليه فأفضل طريقة هي ألا تشاركهم فيه.
وبما أنها ليست معركتي فلم أود أن أسقط جريحاً وينزف حبري هدراً أو أكون قاتلاً مع سبق الإصرار والتحرير، كما لن يغفر لي الأدباء أن أكون شاهداً على هذه الجريمة الثقافية.
لذا اعتزل قلمي ولم ينعزل… قرر أن يُحصن مناعته ويُحيط روحه بهالة لا تُخترق، يصوب فيها مساراته ويحدد فيها خياراته، فأعلن إضرابه بعد أن اختلط الحابل بالنابل وساد جهل بعض الكُتاب بتخلفهم، راح ينتفض… يصرخ… يُكابر ويتبجح بالعصيان والتمرد على صاحبه، توسلت له مراراً وحاولت إغواءه بشتى الطرق لكنه في كل مرة يثور غاضباً لتموت الكلمات بين أصابعي قبل أن تولَد.
غَيّرت مواقعي الجغرافية من أجله… تنصلت من مسؤولياتي… أحرقت أوراقي… أشعلت حطب أشجاري… اعتزلت المخلوقات وأفرغت الطاقات التي كبلتني لأشهر.. تجاوزت الظروف التي حالت دون لقائنا المعهود وحاولت أن أزرع فيه الطمأنينة التي فقدها بين أناملي بعد أن أربكتها الحقائق المؤلمة واستفزها اعوجاج أقلام انحنت دون رقاب لرقاب بلا رؤوس باتت تنهش واقعنا الثقافي وتسيء له أكثر مما تُضيف.
لعل استجدائي المُتكرر له يفلح ويبكي على أوراقي لتنتعش أوعية عقلي بعد أن جف واستُبِيح مداده، لكنه تمادى في عناده، فلم يدع لي خيارا غير تجاهله والانشغال عنه لينتقي هو تاريخ عودته التي أواسي فيها بنات أفكاري المتلاحقة بأنه يوماً ما سيعود راكعاً طالباً الصفح والغفران، ليخرج من ظلماته ويلفظ نوراً.
بعيداً عن التعميم والتصنيف فلا أزكي قلمي الذي عاد مجدداً يتسلل بين أوراقي دون استئذان مُطلقا عنانه ليجادل كل قلم أصم لا يسمع النجوى أو أخرس لا يفصح الدعوى أو كان جاهلا لا يعلم الفحوى.
وإن كنت لم أتسلح في هذه المواجهة بحبال تلجم الجمال الهائجة ولا نبال تصوب سهامها وقت اشتداد الوطيس، إلا أنني أمتلك قلما سئم الاصطفاف مع المُصفقين وكره الانحياز للمُطبلين