موقف لحظة:
سوريا الجديدة: فُرصة أم ورطة؟
المصدر: جريدة اللواء
مع سقوط نظام الأسد واستلام هيئة تحرير الشام للحكم في سوريا ليس عسكرياً بل حتى على صعيد المؤسسات الحكومية التي يبدو أنها ستلقى تباعاً اعترافاً دولياً وعربيّاً مع توالي الزيارات على أعلى المستويات الى رئيس الادارة الجديدة أحمد الشرع، يُعاد رسم خريطة المنطقة سياسياً وعسكرياً، بما يضعغ لبنان أمام معادلة اقليمية جديدة لا يمكن تجاهلها.

هذا التحوّل في المشهد الاقليمي، مقروناً بترقّب «احتمال» انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية في التاسع من الجاري، يطرح سؤالًا أساسياً: هل سينجح «القبطان القادم» في تثبيت أشرعة المركب اللبناني ليتماشى مع رياح التغيير والتي أصبحت تعصف بلبنان من كلّ الجهّات، أم أنه سيبقى عالقاً وسط التيارات القديمة بما يُهدّد بغرقه؟
قد يكون تحديّ العلاقة مع سوريا، هو أولّ ملف لا يحتمل التأخير سيُوضع على طاولة الرئيس الجديد والحكومة الجديدة، فالحدود بين لبنان وسوريا ليست مجرد خطوط على الخرائط، إنما تشكّل على أرض الواقع شراييناً رئيسيةً للأمن والاقتصاد اللبنانيَين، وأي قطعٍ قد يُصيبها قد يُغرق المنطقة في حمّام من الدمّ ويُصيب لبنان بالشلل، من هنا تبرز أهمية تحصين الحدود ليس عسكرياً ولا بجدار «برلين» جديد بل بالتفاهم الحقيقي والواقعي واحترام الخصوصية ومقتضيات حسن الجوار، والبناء على نقاطٍ للتلاقي بين البلدَين بدل التفتيش على نقاطٍ للاختلاف.
لا شكّ أن لبنان يحتاج اليوم إلى تواصل مسؤول وواضح وصريح مع النظام السوري الجديد، بما يحفظ أمنه ويجنّبه أحداثاً قادمة قد تكون أكثر خطورةً ممّا جرى في عرسال في صيف العام ٢٠١٤، فالحدود الآمنة ليست فقط حاجزًا ضد المخاطر العسكرية ولمنع أي اشتباكات قد تزعزع استقراره، بل هي أيضًا بوابة للتجارة والعبور والتواصل.
لبنان المثقل بعبء الانقسامات الداخلية قبل أي انقسام محتمل بشأن كيفية التعاطي مع النظام السوري الجديد، يحتاج بدون ابطاء إلى مصالحة تعيد بناء الجسور بين اللبنانيين فيما بينهم، وبينهم وبين الأخوة السوريين، كما والى بناء علاقات أخوية ومتوازنة بين الدولة اللبنانية والدولة السورية، وبين شعبَين اثنَين في دولتَين جارتَين، وليس على مبدأ «شعبٌ واحد في دولتَين»، وحتماً ليس على قاعدة «وحدة المسار والمصير» بل على قاعدة احترام السيادة والخصوصية، ويكون محلّها المؤسسات الرسمية وليس «عنجر» ولا «البوريفاج».
قانون العفو العام، مع الحرص على ألاّ يُشكّل غطاءً للإفلات من المساءلة، أشبه بعلاجٍ ضروري يحتاج لبنان لتجرّعه بسرعة وبكمياتٍ كافية رغم تأثيراته الجانبية على النسيج الوطني اللبناني، وقد يكون باباً لا بدّ من طرقه لإغلاق ملفاتٍ شائكة واستيعاب من تأثروا بالحرب السورية منذ العام ٢٠١١ وحتى لحظة سقوط نظام الاسد وما بعدها، فضلاً عن بعض التعاطي السياسي والأمني والقضائي الخاطئ في لبنان في بعض هذه الملفات ومع بعض الموقوفين، وعليه لا بُدّ من فتح نافذة المصالحة بصدقٍ ونوايا صافية، بما يسمح بتنقية الأجواء الداخلية وتصفير التراكمات السابقة مع النظام الجديد منذ لحظة بدء الحوار معه، لأن ترف التسويف لن يكون مُتاحاً.
ليس تراكم الملفات الامنية منذ أيام النظام السابق هو التحدّي الوحيد الذي على لبنان أن يُحسن التعاطي فيه مع الادارة الجديدة في سوريا وتغيّر هويّتها الأمنية وليس فقط السياسية، خاصة أن سوريا تشكّل شرياناً حيوياً للاقتصاد اللبناني الذي يعتمد في تجارته الخارجية على التصدير البرّي لزراعاته وصناعاته للوصول إلى الأسواق العربية. وعليه يشكّل النجاح في بناء علاقات مستقرّة مع سوريا فرصةً ذهبية للبنان لتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري معها وعبرها والوصول الى الاسواق العربية بكلفة نقل منخفضة تحفّز على نموّ قطاعيّ الزراعة والصناعة في لبنان وجلب الاستثمارات، أما الفشل فسيكون من شأنه مضاعفة معاناة الاقتصاد اللبناني الذي دخل منذ سنوات غرفةً للعناية الفائقة تفتقد لأجهزة الانعاش الكافية والأدوية الفعّالة التي حلّت مكانها «حبوب الكبتاغون» و»حشيشة الكيف».
لا شكّ أن النجاح في بناء علاقات ايجابية بين لبنان وسوريا، لا يتوقّف فقط على رغبة لبنان وتمكّنه من القيام بما هو مطلوب منه، بل يبقى أن ثمّة موجبات مطلوبة من سوريا أيضاً، أولّها التأكيد على احترام السيادة اللبنانية وحسم موقعها العربي وعودتها غير المشروطة الى حضن الشرعية العربية، وان نجاح سوريا في هذا التحدي الاوّل سيكون له انعكاساته الايجابية ليس فقط على سوريا والنظام الجديد فيها بل على لبنان واستقراره، وعلى لبنان هنا ألا يكون مجرد متلقٍ، بل عليه أن يلعب دورًا محوريًا في العمل عبر جامعة الدول العربية على احتضان سوريا الجديدة ودعوتها للحفاظ على التعدّدية التي تشكّل ميزةً يتشارك فيها المجتمعَين اللبناني والسوري، واصلاح خطيئته بحقّ السوريّين يوم وقف وزير الخارجية اللبناني في قمة وزراء الخارجية والاقتصاد العرب التي انعقدت في بيروت في ١٨ كانون الثاني ٢٠١٩ مطالباً بإعادة مقعد سوريا في جامعة الدول العربية الى نظام الاسد، بعد تعليق عضوّيتها في الجامعة منذ العام ٢٠١١ نتيجة الجرائم التي ارتكبها الاسد بحقّ شعبه.
يبقى أنه، وفي سبيل نجاح لبنان في التقاط الفرصة التي سنحت له عبر التغيير الحاصل في سوريا، على اللبنانيين الذين انخرطوا في القتال الى جانب النظام السابق في سوريا أن يُحسنوا التكيّف مع الرياح الإقليمية الجديدة ليس على قاعدة الضعف والاستسلام، بل على قاعدة التعلّم من دروس التاريخ والجغرافيا، وأن يقتنعوا أن لبنان وسوريا اليوم ليسا كما كانا عليه في ظلّ النفوذ الايراني الآخذ بالانحسار، وأن المركب اللبناني ليس بحاجة فقط الى قبطانٍ جديد بل إلى بوصلة سياسية محدّثة تقوده نحو خليج العرب الدافئ، والنجاح سيكون ليس في مواجهة الأمواج، بل في حسن استخدام الرياح.
«راجح»