مع انتهاء الاستشارات النيابية الملزمة الى تكليف القاضي نوّاف سلام بتشكيل الحكومة الجديدة بعد أن نال ٨٤ صوتاً مقابل ٩ أصوات لرئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي وامتناع ٣٥ نائباً عن التصويت من ضمنهم جميع النواب الشيعة السبعة والعشرين، طرح البعض أسئلةً حول ميثاقية التكليف، فيما طرح البعض الآخر سؤالاً حول مدى توافق سلوك نواب طائفة بأكملها بالامتناع عن التسمية مع الدستور وروح الشراكة الوطنية متناولين الموضوع من زاوية «لا ميثاقية الامتناع».
فالامتناع عن التسمية لا يمكن النظر اليه فقط كخيارٍ سياسي، متى حصل على شكل «فيتو» ترفعه طائفة بوجه توافق وطني عريض جمع مختلف باقي الطوائف، لمجرّد أن نواب تلك الطائفة كانوا يرغبون بتسمية شخصية محدّدة لترؤّس الحكومة الجديدة، فيما الاغلبية النيابية لا توافقهم في خيارهم، بل يُصبح هذا الامتناع إذا ما حصل بالشكل المذكور وكأن النواب الذين يمثّلون هذه الطائفة يسعون الى اخراجها من معادلة الشراكة الوطنية، ليعودوا ويتذرّعوا بأنه تم استبعادهم عن المشاركة في القرار السياسي.
في هذا السياق، يعكس امتناع جميع نواب الثنائي الشيعي عن تسمية القاضي نواف سلام تعقيدات عميقة في الممارسة السياسية اللبنانية. هذا الامتناع عن التسمية، وبعده مقاطعة الاستشارات النيابية غير الملزمة يوم أمس، يُفهم منهما وكأنهما تعطيل مسبق لأي مبادرة إيجابية قد تساهم في اعادة الاستقرار الى البلاد مع انطلاقة عهد الرئيس العماد جوزاف عون. السؤال هنا ليس فقط عن الأسباب السياسية وراء هذا الموقف بل عن مفاعليه الدستورية.
فالدستور اللبناني يتطلب مقاربة تستند إلى حسن النية، وتفسير نصوصه بشكلٍ يؤدي الى تطبيقها وليس الى تعطيلها. التفسير الدستوري السليم هو ذلك الذي يرى نصف الكوب الملآن بدل التركيز دائماً على نصفه الفارغ، فالتركيز على «النصف الفارغ» من النصّ الدستوري إذا ما صحّ التعبير، هو ما كان يعترض دوماً تشكيل الحكومات نتيجة سعي بعض الاطراف لنيل ما اصطُلح على تسميته من خارج النصّ الدستوري «بالثلث المعطّل». بينما ينص الدستور على وجوب توفّر «ثلثين منتجين» في مجلس الوزراء لتأمين نصاب الانعقاد واتخاذ القرارات في المسائل الاساسية.
فقد ورد في الفقرة ٥ من المادة ٦٥ من الدستور اللبناني ما حرفيّته:
«يجتمع مجلس الوزراء دورياً في مقر خاص ويترأس رئيس الجمهورية جلساته عندما يحضر. ويكون النصاب القانوني لانعقاده أكثرية ثلثي أعضائه، ويتخذ قراراته توافقياً. فإذا تعذر ذلك فبالتصويت، ويتخذ قراراته بأكثرية الحضور. أما المواضيع الأساسية فإنها تحتاج إلى موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيله…»
ليست المشكلة في النصّ المتقدّم، بل في طريقة تكييف البعض له. فالقراءة السلبية للنصوص القانونية تُضعف المؤسسات وتساهم في تكريس حالة المقاطعة والفراغ بدل تعزيز ثقافة المشاركة والانتظام، وهو ما يحصل اليوم نتيجة الامتناع الشيعي عن تسمية الرئيس المكلّف وعن المشاركة في الاستشارات النيابية غير الملزمة وحتى التلويح بالامتناع عن المشاركة في الحكومة المقبلة أو حتى عدم المشاركة في جلسة الثقة، والاستناد في ذلك الى ما ورد في ختام مقدّمة الدستور لجهة أنه «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك».
في ظل هذه الاشكالية، يتم التعويل على حكمة رئيس مجلس النواب نبيه بري في لعب دور محوري والسعي لتسهيل تشكيل الحكومة الجديدة وإبقاء الطائفة الشيعية الكريمة في موقعها الطبيعي كجزءٍ من حالة الوفاق الوطني، فنجاح العهد الرئاسي الجديد والحكومة المقبلة، يتطلبان شراكةً حقيقية بين مختلف القوى السياسية والطائفية، وتصالحاً وتصارحاً فيما بينها، وكلها أمور لا يمكن أن تتحقّق بدون دور فاعل وحكيم للرئيس برّي في السعي نحو تجاوز المعوّقات الدستورية والسياسية.
وفي ظلّ التحديات الحالية، فإن شخصية الرئيس المكلّف نواف سلام تمثّل فرصة فريدة للبنان، فمسيرته الدبلوماسية الطويلة وترؤسه لمجلس الامن الدولي في فترةٍ سابقة وعمله كقاضٍ ورئيس لمحكمة العدل الدولية وثقافته الواسعة وكتاباته القيّمة في مواضيع متنوّعة، تعكس كفاءة ومصداقية نادرة في المشهد السياسي اللبناني في السنوات الاخيرة. اختياره لتشكيل الحكومة يفتح الباب أمام انطلاقة واعدة للعهد.
في المقابل، يتطلب نجاح هذه التجربة تعاوناً بناءً مع الرئيس العماد جوزاف عون، الذي يجسّد في شخصه رمزية المؤسسة العسكرية الضامنة للاستقرار والسلم الأهلي وصورة الرئيس القوي الذي لم يخضع لا للتهويل ولا للترغيب ولا للترهيب، والقادر أن يلعب دور الحكم بين اللبنانيين والقوى السياسية بعد أن أكدّ عدم رغبته في الحصول على حصّة وزارية ما يجعله خارج أي خلاف فد يحصل في مجلس الوزراء، وهو ما يؤكّده النصّ الدستوري الدي لم يَحجب عنه الحق في التصويت من أجل الانتقاص من صلاحيّاته بل بهدف تعزيز موقعه كحكم فوق أي خلافات أو انقسامات في السلطة التنفيذية.
وعليه يُمكن التعويل على أن تؤسّس العلاقة بين هاتَين القامتَين الوطنيتَين لشراكة استثنائية قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والامنية وإعادة الاعمار وبناء الثقة بالدولة ومؤسساتها وإطلاق عجلة الاصلاح وتأمين المظلة الدولية عبر الالتزام بالدستور وباتفاق وقف إطلاق النار وتطبيق القرارات الدولية وتأكيد الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي اللبنانية التي بقيَ فيها.
يبقى أن تأمين الظروف المناسبة للبدء بالورشة المتقدمة، يستوجب أولاً معالجة أزمة المقاطعة «الشيعية» للرئيس المكلّف نوّاف سلام، لا من زاوية دستورية التكليف وبعده التأليف بل من زاوية الواقعية السياسية التي عبّر عنها الرئيس المكلّف خير تعبير في تصريحه من قصر بعبدا عندما أكد أن «يدَيه ممدودتان» فهل سيتمكّن في نهاية المطاف من شبك الأيدي مع الرئيس برّي ومن خلاله مع المكوّن الشيعي لتسهيل عملية تشكيل الحكومة أم أن الهوّة السياسية أعمق من أن تُردم وأزمة الثقة أشدّ من أن تُعالج بالمسكّنات والامور ستبقى عالقة عند تصريح النائب محمد رعد بأن «اليد الممدودة قد تمّ قطعها»، بما يؤشّر الى أن أي عملية ترميم سياسي لن تكون متاحة حالياً؟