خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
انتهت حرب غزة ولو مؤقتاً؛ ولكن بعد ٤٦٦ يوماً من سفك دماء الفلسطينيين تحت كاميرات الإعلام العالمي، تم الآن وضع نقطة النهاية – ولو مؤقتاً – على واحدة من أكبر المآسي الإنسانية التي شهدها العالم في عصرنا الحديث.
أسئلة كثيرة سيطرحها المفكرون السياسيون عن أسباب ما جرى؛ وعن المعاني الاستراتيجية التي يجب استخلاصها مما جرى؛ وأيضاً ثمة أسئلة سياسية حرجة ستطرح نفسها بعد وقف الحرب حيث يتوقع أن يكون لها وقعاً صعباً خاصة داخل إسرائيل وفوق الساحة الفلسطينية وفي لبنان، وأيضاً في معظم دول المنطقة والعالم.
خلال حرب غزة التي امتدت إلى لبنان والتي جرى تحت غطائها الحدث السوري المزلزل، كان السؤال لماذا تستمر هذه الحرب، وما هو آخر مشهد فيها؟..
واليوم مع بدء وقف إطلاق نار حرب غزة، وبعد كل ما جرى فوق ساحات ميادينها المختلفة، يصبح السؤال الملح هو ماذا بعد وقف أطول حرب فلسطينية إسرائيلية؛ وأيضاً ماذا ستكون عليه تداعيات أطول حرب لبنانية إسرائيلية؛ وأول اشتباك مباشر بين اليمن وإسرائيل؛ وأيضاً أول اشتباكات عسكرية مباشرة تحدث بين إسرائيل وإيران؛ وليس فقط عبر وكلاء إيران مع الكيان العبري، الخ..
لقد جرت داخل حرب غزة كل حروب المنطقة، وبرزت إلى السطح كل أزمات المنطقة، ومع نهاية هذه الحرب يتوقع أن يتم فتح دفتر تصفية حسابات الخاسرين، وهم كل الذين تورطوا في هذه الحرب.
لا شك أن المنطقة بعد حرب غزة لن تكون كما كانت قبلها؛ فهذه الحرب غيرت التضاريس الجيوسياسية للمنطقة وذلك كنتيجة مباشرة لسقوط النظام السوري، ما قاد إلى تبدل عميق في مروحة واسعة من توازنات القوى التي كانت تتحكم في المنطقة منذ نحو ثلاثة عقود.
ومن نافل القول أن التغيير الجيوسياسي الذي حدث في سورية كان على نحو ما، هو أحد أكبر نتائج حرب غزة، أو بتعبير أدق كان واحداً من التداعيات الأهم لها.
.. كما أن حدث وصول ترامب إلى البيت الأبيض الذي اعتبره المفكر السياسي الأميركي فوكوياما مفترقاً غيّر من تفكير المجتمع الحر الليبرالي الغربي، لم يكن ممكناً أن يحدث، لو أنه لم تكن من بين الأسباب التي ساهمت في حدوثه، تداعيات الضعف التي أصابت الحزب الديموقراطي الأميركي نتيجة موقف بايدن وإدارته من حرب غزة ومهادنته المفضوحة لجرائم إسرائيل فيها.
وما يحدث حالياً في لبنان من تغير على مستوى توازنات القوى المحلية والإقليمية فيه، هو بلا شك إحدى أبرز الانعكاسات التي تركتها حرب غزة على لبنان، وأيضاً ما حملته على الداخل اللبناني انعكاسات حرب إسناد غزة.
أضف أن حرب غزة شكلت أكبر اختبار فعلي لهيبة ترامب السياسية والمعنوية في الشرق الأوسط وذلك حتى قبل أن يدخل إلى البيت الأبيض. ففي إسرائيل بات هناك لأول مرة سقف سياسي لا يستطيع نتنياهو تجاوزه؛ وعنوان هذا السقف هو تحاشيه إغضاب ترامب؛ فقبل دخول ترامب إلى المشهد السياسي كان نتنياهو متفلتاً من أي وسيلة ضغط عليه. والآن فقط، صار يمكن توقع كيف سيتصرف نتنياهو؛ وإلى أي مدى تطال يده؟؟.
باختصار العالم دخل منذ صباح هذا اليوم مرحلة النتائج التي أسفرت عنها حرب غزة؛ ذلك أنه إذا كان هناك نتائج كبيرة وصادمة وغير متوقعة رافقت حرب غزة؛ فإن الأخطر هي تلك التي ستظهر خلال المرحلة التي يمكن تسميتها بمرحلة خسائر نتائج حرب غزة.
ومنذ اليوم سيكون على العالم البدء بمرحلة إحصاء الخسائر المعنوية العالمية والإقليمية التي أسفرت عنها حرب غزة، وليس فقط إحصاء خسائر الدمار والقتل المباشرة.
ومنذ اليوم دخلت المنطقة مرحلة معاينة ما الذي تبقى فعله للقضية الفلسطينية، وكيف يمكن احتواء الغضب العام؛ وما الذي يمكن انتشاله من حطام الأمن العربي(؟؟)، وباختصار: كيف يمكن إيقاف تداعيات خسائر مرحلة ما بعد حرب غزة(؟؟).
إن أبرز نتائج حرب غزة هو أنه لا يوجد فيها “نصر مطلق” كما ادعى نتتياهو الذي يجب الاعتراف له بأنه حقق “جريمة مطلقة” ستطاردها العدالة بغض النظر عن موازين القوى. وأيضاً نجح نتنياهو بإيصال المنطقة إلى حالة “فراغات استراتيجية” غاية في الخطورة؛ ولا يمكن في هذه اللحظة المبكرة قياس نتائجها وانعكاساتها.
ضمن هذا الإطار المستجد الناتج بنسب معينة عن حرب غزة ونتائجها، والذي يمكن تسميته “بأخطار الفراغات الاستراتيجية” التي تمر بها المنطقة حالياً، يجدر الإشارة مبدئياً إلى النقاط التالية التي تبعث على القلق الشديد:
أولاً- ليس مضموناً أن لا يؤدي الفراغ الاستراتيجي السائد في سورية حالياً، إلى تحويل سورية مع الوقت، إلى أفغانستان المشرق العربي. وهذا الاحتمال هو المرشح رغم المساعي الحادة لأخذ الواقع السوري الحالي إلى عملية تغيير مخططة ويوجد لها رعاية ومواكبة دولية.
ثانياً- لقد أدت حربا طوفان الأقصى وإسناد غزة إلى حصول تحولات في لبنان على غير صعيد؛ وهذه التحولات يوجد بإزائها توجهان إثنان: الأولى يريد الاستثمار فيها لمصلحة لبنان وكل اللبنانيين كما يفعل العهد الرئاسي الجديد في لبنان. ولكن بالمقابل هناك من يعتبر أن نتائج حرب غزة خلق فراغاً استراتيجياً إقليمياً وداخلياً في لبنان يجب تعبئته بأسلوب فرض الانقلابات وليس فتح باب التفاهمات.
ويجب الاعتراف بأن السباق بين هذين التوجهين لم يحسم بالكامل بعد؛ وهذا يفتح باب القلق على مصرعيه خشية حدوث مفاجآت دراماتيكية غير متوقعة على ساحة لبنان.
ثالثاً- يمثل احتمال توجيه ضربة إسرائيلية استراتيجية لإيران أحد أهم تطبيقات دخول المنطقة مرحلة الفراغات الاستراتيجية التي تسود نتيجة تداعيات حرب غزة المباشرة وغير المباشرة.
والواقع أن هناك نظرية رائجة تقول أن نتنياهو يعتبر أن وقف النار في غزة بعد وقف النار في لبنان، يجب أن يكون إيذاناً بالتفرغ الإسرائيلي المدعوم أميركياً، للتعامل عسكرياً مع ما يسميه اليمين الإسرائيلي بالجبهة الأم؛ أي الجبهة الإيرانية.
ولعل أخطر ما يمكن أن يحدث قفي حال إقدام نتنياهو على خطوة عسكرية استراتيجية ضد إيران، هو أنه لن يكون ممكناً احتساب كيف ستنتهي هذه الخطوة، وإلى أي مدى ستمتد هذه الحرب، وكيف سترد إيران عليها؛ وهل ستعتبر القوى الإقليمية والكبرى في العالم أن تجرّأ نتنياهو على فتح حرب كبرى يجب فهمه على أن الحرب صارت هي الخيار الوحيد المتاح والمعترف به دولياً بحيث أن كل دولة لديها القدرة العسكرية تستطيع أن تحل مشاكلها عبر الحرب والخيار العسكري..
.. بمعنى آخر؛ هل أصبح الخيار العسكري المتاح والممكن والقادر هو وحده معيار حل أزمات العالم الكثيرة؛ فيما الحل السياسي والدبلوماسي أصبح مادة يتوسلها الضعفاء دون جدوى.
باختصار المنطقة تشهد فراغات استراتيجية، قد تلجأ دول عديدة لتعبئتها من خلال الحروب ومن خلال توهم أن الدبابة هي الحدود الآمنة.