خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
هناك نوع من الأخبار يطلق عليه مصطلح “الإشاعة الحقيقية”؛ وهي تعني أن شيئاً حصل فعلياً ولكنه لا يمكن اعتباره هو الحدث الحقيقي..
وهذا النوع من الأخبار سمعناه أمس بخصوص أن خلافاً حصل فعلياً بين فخامة الرئيس جوزاف عون ودولة الرئيس نواف سلام ولكن مع ذلك لا يمكن لمراقب أن يعتبر أن الخلاف بات هو فحوى طبيعة العلاقة بين فخامته ودولته؛ أو الرئيسين الأول والثالث دخلا مرحلة المساكنة وصار بينهما طلاقاً مارونياً أو خلعياً على طريقة الحنابلة المسلمين.
أساسا طبيعة اللحظة السياسية التي يمثلها الرجلين الجالسين في قصر بعبدا والسرايا الكبير لا تحتمل القول أن فخامته ودولته يرعى بينهما الغزال ولو لفترة من الوقت.. الرئيس نبيه بري لديه عبارة شهيرة يرددها في كواليسه وهي “وحدة الحكم”؛ أي أن يكون الحال بين الرؤساء الثلاثة على خير ما يرام.. وربما بري يريد من المصطلح إظهار أن جمهورية الطائف على عكس جمهورية الـ٤٣؛ وذلك لجهة أنها منقادة من ثلاثة أحصنة وأنه يجب أن تكون إيقاعات هذه الأحصنة الأربعة متناسقة ومتفق عليها حتى لا تحدث “دربكة” وحتى لا يشهد البلد انفصال العربة عن الأحصنة ويحدث المحظور.
على كل حال حصل أمس ما يمكن تسميه “بإشاعة الخلاف الصحيحة بين الرئيسين عون وسلام”؛ ولو أن نفس هذه الواقعة حدثت بين الرئيس ميشال عون والرئيس حسان دياب أو الرئيس سعد الحريري لكان تم وصف هذا الخلاف بالواقعة الصحيحة وليس بالإشاعة الصحيحة. وهنا الفرق الذي يجب لحظه بين اختلاف الرئيسين الحاليين أمس وبين خلاف معظم الرؤساء السابقين الذي كان يهدد يتعطيل العهد ويشهد نوع من تمترس دولة الرئيس ومن وراءه طائفته، وراء مطالبهم (أطراف طائفته) وليس فقط مطالبه.
لا يزال يمكن الإشارة إلى أن “وحدة الحكم” – حسب مصطلح بري – لا تزال قائمة؛ وأكثر من ذلك يمكن التأكيد أنه على عكس تقاليد عهود اخرى، فإن سيد هذا العهد يحتاج “لوحدة الحكم” حتى لا يصبح وحيداً داخل مهمة عهده الكبيرة؛ كما أن رئيس الحكومة يحتاج لوحدة الحكم حتى لا تصح عليه النظرية التي تصفه بأنه طائر يغرد وحيداً خارج سرب عصافير البلد؛ أضف أن بري يحكم من خلال قدرته على جعل الحكم موحداً؛ وجعل أطراف الحكم يتهيبون حالات التفرد داخله.
وبعد أن طلع صبح يوم جديد على قصر بعبد بعد أول إشاعة خلاف صحيحة مع السرايا الكبير؛ يجدر بفخامة الرئيس أن يستعيد لمحات من تاريخ العلاقات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة أيام جمهورية الـ٤٣ لأنه في تلك الفترة كان الخلاف بينهما يصل لعنان السماء ولكن يظل هذا الخلاف ينطبق عليه مصطلح “الإشاعة الصحيحة” التي تعني أن هناك خلاف، ولكن ليس هو طبيعة العلاقة بين الرئيسين. أما الاختلاف بين فخامته ودولة الرئيس الثالث على أيام جمهورية الطائف فهو غالباً ما كان يتحول لخلاف حتى العظم ليس من السهل جبره، ويحيل العلاقة بين الرئيس الأول والثالث إلى نوع من المساكنة التي كلها مشاكسة.
وعليه إن أهم مستشار للعلاقة مع دولة الرئيس الثالث الذي يفضل أن يستمع الرئيس الأول، هو مستشار “الإشاعة الصحيحة”، فيما عليه أن يصم أذنيه أمام ما سيقوله له مستشار العلاقة مع دولة الرئيس في جمهورية الطائف المليئة بأنواع النكد والتعطيل.
إن جولة ذكريات حول ما كان يدور بين رؤوساء الجمهورية زمن الـ٤٣ وبين رؤوساء الحكومة حينها ستقود فخامة الرئيس إلى إجراء تمرين على التمرس بسلوك الأريحية في العلاقة مع ما يمكن تسميته بـ”الضرة الحبيبة” التي إسمها رئيس الحكومة..
مرت العلاقة بين فخامة الرئيس ودولة الرئيس الثالث خلال الجمهورية الأولى بأدوار ومراحل ومشاهد وتناقضات ما أنزل الله بها من سلطان: مثلاً لم يسبق لعهد في أي بلد أن يكون مطلوباً منه تشكيل حكومة يرضى عنها كل العالم وتوافق عليها كل الدول مثل الحكومة التي سعى لتشكيلها الياس سركيس وسليم الحص عام ١٩٨٠. ونجحا في هذه التجربة لدرجة ظن العالم أنها ستستمر إلى ما شاء الله.
وأول رئيس جمهورية بشارة الخوري اشتهر بفرك كفيه بعضهما ببعض، حينما كانت تصل المفاوضات بينه وبين الرئيس المكلف للحظة صعبة. واصطلح على تسمية حركة الغضب هذه عن بشارة الخوري بـ”الصوبنة بالهواء”. وكان حينما يشاهد الزائر الرئيس الخوري “يصوبن في الهواء” كان يفهم أن أموره غير سالكة مع القصر؛ فينسحب ليقلل الخسائر وليخلو فخامته بنفسه للبحث عن جائزة ترضيه لدولته، وهي الطريقة التي اتبعها الرئيس شارل حلو في علاقته مع الرئيس الثالث لاحقاً..
.. أما الرئيس فؤاد شهاب فكان على طريقة أخواله آل حبيش يلجأ إلى السخرية للتعبير عن غضبه أمام دولته أو مبعوث منه إليه وذلك عن طريق القول بالفرنسية “ايش ها الروبيبليك” أي ما هذه الجمهورية!!.
وعليه فإنه بين “الصوبنة بالهواء”، وبين السخرية الشهابية على طريقة آل حبيش؛ يمكن إيجاد أريحية حبيشية أو مناخ “الإشاعة الحقيقية” لابقاء العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة عامرة ومنتجة ومستندة – ولو لتقطيع المرحلة الأصعب – لمبدأ “وحدة الحكم” التي يستهوي وجودها الرئيس نبيه بري، ولكن تستثير روح معارضته لقصر بعبدا أو للسرايا الكبير في حال شعر أنها غير موجودة.