خاص الهديل
بقلم: ناصر شرارة
يوجد أخطاء شائعة تتعلق بالطريقة التي بتم بها قراءة الحدثين المتعلقين بحصول عمليتي إطلاق صواريخ كاتيوشا من جنوب لبنان باتجاه فلسطين المحتلة.
من بين هذه الأخطاء التوجه العام الذي يعتبر أن هذين الحدثين بالضرورة تقف وراءهما جهة واحدة.. والصحيح أن هناك مناخاً سياسياً وأمنياً وعسكرياً واحداً تمت في إطاره حصول عمليتي إطلاق الكاتيوشا، وعمليات أخرى ستحصل حتماً.. وهذا المناخ هو العامل المشترك الأساس الذي يربط بين كل أنواع هذا النموذج من عمليات إطلاق الكاتيوشا التي ستتكرر حتماً؛ لأن مسألة إيقافها ليست مسألة تقنية أمنية، بل مسألة سياسية لا يتوفر لها حلاً سياسياً لا على المدى المنظور ولا المتوسط..
.. وحتى يصبح ممكناً سياسياً فهم لماذا هناك تكرار بين الفينة والأخرى لإطلاق صواريخ كاتيوشا بدائية من لبنان إلى إسرائيل؛ يجدر التوقف باهتمام وبتمعن عند الملاحظة الأساسية التالية:
أخطر ما في هذه الصواريخ البدائية الصغيرة المدى وذات الفعل العسكري الهش؛ هي أنها تستطيع إيصال رسائل استراتيجية وطويلة المدى، وتستطيع خلط أوراق سياسية من تل أبيب مروراً ببيروت ودمشق وصولاً لباريس لغاية واشنطن.. لكن يظل أبرز هذه الرسائل يتمثل بأن لبنان عاد “ساحة لصراعات المنطقة الجديدة”، و”عاد صندوق بريد” يضع فيه الإقليميون والدوليون رسائلهم الساخنة. وهنا يجب وضع خط واضح تحت عبارة أن لبنان “عاد ساحة للصراع الإقليمي الجديد”.
يجدر بخصوص هذه النقطة لحظ أمراً غاية في الأهمية وهي أن الهجمة الإسرائيلية – الأميركية والإقليمية نجحت في إخراج إيران من معاقلها في المشرق العربي ولكنها لم تنجح في الاتفاق على كيف يتم ملء الشغور الذي تركته إيران في المشرق؛ لم تحصل بين القوى التي تشاركت بمهمة إخراج إيران على إبرام ما يشبه – مجازاً – “يالطا صغيرة” لتقاسم النفوذ الذي كانت تملكه. وكنتيجة لذلك يلاحظ المراقب اليوم مثلاً وجود صراع بين تركيا وإسرائيل في سورية على كيفية توزيع نفوذهما فيها بعد أن خرجت إيران منها وبعد أن تم حصر النفوذ الروسي داخل قاعدتيه العسكريتين في الساحل السوري.
وأيضاً في لبنان جرى توجيه ضربة قوية لحزب الله وحصل نوع من قلب الصفحة السياسية فيه؛ ولكن لم يتم استبدال نفوذ تهالك بنفوذ جديد صاعد؛ بل لا يزال الوضع يتفاعل داخل مرحلة انتقالية ضبابية وفيها العامل الإسرائيلي عنصر توتير وليس عنصر استقرار نتيجة أن إدارة ترامب لم تثبت أنها ستدير لبنان بعيداً عن العصا الإسرائيلية الغليظة..
وواقع أن الدول البديلة لإيران لم تثبت أنها متفقة على أن تدير بالتنسيق فيما بينها ورثة إيران في المشرق؛ بل هي تتنازع وتتصارع عليها؛ فإن هذا يخلق بل خلق واقعاً من التنافس الجيوسياسي في المنطقة التي انسحب منها النفوذ الإيراني؛ ووفق هذا الواقع يصبح التوصيف الدقيق للوضع في المشرق هو التالي: ليس أن إيران انسحبت من المنطقة بل أن إيران تركت فراغاً جيوسياسياً في المنطقة سيؤدي أو هو يؤدي لحروب جيوسياسية وبالوكالة بين الدول المعنية بالحلول مكان النفوذ الإيراني المنسحب..
هذا الواقع ببساطة يحول لبنان إلى ساحة للصراع الجيوسياسي المتأتي من الفراغ الاستراتيجي الذي أحدثه صراع ورثة النفوذ الإيراني… ويحول سورية إلى ساحة تجربة دولية لاختيار نظام بديل للأسد حليف إيران تكون أهم سماته أن تتفق عليه الدول التي تريد وراثة نفوذ طهران في سورية..
خلال الأعوام الماضية كانت هناك نظرة عامة ترى أن النفوذ الإيراني الطاغي في معظم دول المشرق هو سبب التوتر واللااستقرار في هذه المنطقة؛ أما اليوم فإن النظرة العامة تقول أن عدم اتفاق الدول الطامحة بوراثة النفوذ الإيراني في المشرق، على كيفية تقاسمه، هو سبب التوتر وعدم اللااستقرار في هذه المنطقة.
وبديهي أن هذا الفراغ الجيوسياسي الذي تركه الإيراني في المنطقة أدى إلى تحويل مساحة نفوذ إيران القديمة إلى ساحة صراع جديدة بين دول جديدة ومشاريع متصادمة جديدة.. وأدى هذا الواقع من جهة ثانية إلى بقاء إيران في المشرق وذلك انطلاقاً من أن نسبة من مكانها القديم لا يزال فارغاً جيوسياسياً وليس المقصود هنا أمنياً وتقنياً وعسكرياً.. وعليه يمكن القول أن صواريخ الكاتيوشا البدائية لا يجب النظر إليها على أنها تنطلق من لبنان بوصفه ساحة حليفة لإيران، بل يحب النظر إليها بأنها تنطلق من لبنان ضمن وضعه الجديد والمعادلة الجديدة التي تجعله “صندوق رسائل ساخنة” أو “ساحة”، يجري فوقها الصراع الجديد الناتج عن الفراغ الجيوسياسي الذي لم يتم حسمه بعد، نظراً لأن بدائل إيران لم تتقاسم نفوذها بل تتصارع على نفوذها، الأمر الذي يبقي على الصراع في المشرق بعد خروج إيران منه؛ بدل أن ينهيه؛ والأمر الذي يبقي لإيران حضوراً اعتراضياً رغم تلاشيه استراتيجياً….