الهديل

خاص الهديل: يالطا مشرقية: المخاض القاتل

خاص الهديل….

بقلم: ناصر شرارة

ساعة بعد ساعة وليس فقط يوماً بعد يوم، يتضح أن منطقة المشرق التي توجد سورية في قلبها، والذي يعبر لبنان داخلها عن أنه “رسالة” في الشرق الأوسط، توجد (أي منطقة المشرق) في خضم أتون أخطر أزمة غير مسبوقة ولا يشبهها من حيث التحولات الجيوسياسية التي تواكبها، إلا الأزمة التي حدثت بعد الحربين الكونيتين في النصف الأول من القرن الماضي، وذلك عندما تحولت السلطنة العثمانية لرجل مريض، وسالت لعاب الدولتين الغربيتين (انكلترا وفرنسا) اللتين ربحتا آنذاك الحربين لتقاسم مناطق نفوذه في المنطقة.

آنذاك كان هناك إرادة دولية لتحويل موازين القوى التي أحدثتها نتائج الحرب العالمية الثانية إلى نظام جديد بغض النظر عن عدالته؛ ولكن ما يحدث الآن هو أنه يراد الاستثمار بنتائج حرب غزة أو ما تسميه إسرائيل بنتائج السبع حروب من أجل تغير هوية الصراع في المنطقة وحسمه من منظار تأويل تاريخي وديني وذلك بدل جعله يستقر على مصالحة بين القوى المتصارعة..

 

منذ وقت مبكر نسبياً تكهن المستشرق الأميركي من أصل بريطاني برنارد لويس (توفي عام ٢٠١٨) بأنه لن يمضي وقت طويل حتى تصبح إيران تركيا وتصبح تركيا إيران؛ وبموجب ذلك ستصبح إيران دولة قوية معتدلة دينياً؛ وتصبح تركيا دولة ضعيفة متطرفة دينياً..

والواقع أن المنطقة تتجه من خلال الصراع إلى تحقيق تكهن برنارد لويس؛ ولكن المشهد يتسع لمعادلة أخرى مواكبة أو هي تواكب تحقق تكهن لويس؛ ومفادها أن حرب غزة وأخواتها قادت إلى تغير جيوسياسي كبير تمثل بإخراج النفوذ الإيراني من كل دول المشرق العربي؛ وبالأساس من سورية ولبنان. وبالتالي لم تعد أزمة المشرق إيرانية – بحسب وجهة النظر الإقليمية العربية أو الدولية الغربية – ؛ وبدل هذه الأزمة حلت أزمة أخرى وهي تتمثل بسؤال يطرح نفسه بإلحاح في هذه اللحظة ومفاده من هي القوة التي تستطيع أن تعبئ وتملأ الفراغ الذي كان يشغله النفوذ الإيراني في المشرق؟؟.

قبل أيام قصد وزير خارجية تركيا فيدان حقان الولايات المتحدة الأميركية وقد حمل معه ملفاً واحداً وهو كيفية معالجة أمراً استراتيجياً مستجداً وهو أن القضية المشتركة التي كانت تسمى بالتخلص من النفوذ الإيراني في سورية نتج عنها مشكلة لم تكن متوقعة أو أنها كانت متوقعة ولكنها مستبعدة؛ وهي ظهور أزمة بين تركيا وإسرائيل في سورية قد تؤدي لحرب بينهما وعنوانها تنافسهما على وراثة النفوذ الإيراني في سورية.

واضح من سلسلة الغارات الجوية العنيفة التي شنتها إسرائيل ليلة أمس على سورية أن فيدان حقان لم يجد في واشنطن آذاناً صاغية أقله في هذه الفترة.. فغارات إسرائيل ليلة أمس جرت تحت عنوان أن تل أبيب تستكمل ضرب ما تبقى من المقدرات العسكرية التابعة للجيش العربي السوري كي لا تستعملها ضد إسرائيل لاحقاً الفصائل المتطرفة؛ ولكن في العمق كانت هذه الغارات الإسرائيلية توصل رسالة بالنار لأنقرة بأن تل أبيب غير موافقة على فكرة أن تحل تركيا في سورية كنفوذ جيوسياسي مكان إيران؛ وأيضاً أن إسرائيل سوف تضع بوجه تركيا في سورية نفس الخطوط الحمر التي وضعتها بوجه إيران؛ أي ممنوع على تركيا الاقتراب على نحو مباشر أو غير مباشر من الحدود السورية مع إسرائيل؛ وهذا يعني أنه ممنوع على تركيا التواجد عسكرياً بكل المناطق التي قصفها الطيران الاسرائيلي ليلة امس في ريف حلب وحمص وحماه؛ وبالأساس في نقطة “تي ٤” التي تعتبر واحدة من أهم النقاط الإستراتيجية في سورية. والأمر الثالث وليس الأخير التي تقوله إسرائيل بالنار لتركيا هي سورية داخل القضاء التركي يجب أن تكون بلداً منزوع السلاح غير الشرطي وأن إسرائيل ستسمح لتركيا بإشراف إداري واقتصادي على سورية ولكن الإشراف الاستراتيجي العسكري والأمني سيكون لإسرائيل. 

قد لا تتسع هذه السطور للتوسع في شرح كل المعادلة التي تريد فرضها إسرائيل على تركيا في سورية؛ ولكن ما يجدر الإشارة إليه هو أن المنطقة تتجه / أو هي أصبحت فعلياً داخل أتون حروب جيوسياسية ولم تعد فقط داخل حروب عسكرية لديها مطالب سياسية. وتعني الحروب الجيوسياسية هي حلول قوى مكان قوى أو تقاسم المناطق التي بينها تماسات قابلة للاشتعال في أي وقت. وهذا التوصيف يقود لسؤال يطرح نفسه على لبنان وهو كيف سيتموضع داخل أزمة المشرق الجيوسياسية الجديدة؛ ذلك أن النأي بالنفس الذي طرحه الرئيس نجيب ميقاتي عن أزمة سورية أصبح اليوم غير معمول به وغير مطلوب من قبل الدول التي كانت تشجع لبنان كي ينأى بنفسه عن أزمة سورية.. أضف لذلك أن المشكلة تعدت سجال ٨ و١٤ آذار حول كيف يحمي لبنان نفسه وصارت كيف ستؤثر حروب الإقليميين غير العرب المتنافسين على ملأ الفراغ الاستراتيجي في المشرق على لبنان كوحدة جغرافية وكدور في منطقته وعلى استقراره؟؟.

قصارى القول هو أن ما يحدث يوحي بأن المشرق في لحظة تاريخية قد تؤدي نوعية أحداثها إلى حدوث يالطا جديدة، ولكن مع ملاحظة أنه لا يبدو أن هناك متسعاً داخل ازمات العالم لعقد طاولة تقاسم وتقسيم لتهدئة الخلافات بل كل المساحة العالمية تشي باشتداد التنازع والنزعة لتسعير الأزمات؛ بدليل ما حدث في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي صمم منذ منتصف القرن الماضي لتنسيق خطط الأمن المشتركة، ولكنه خلال هذا العام تحول إلى مؤتمر لاستثارة الافترقات بين أطراف الحلف الاطلنطي الواحد..

Exit mobile version