خاص الهديل…
قهرمان مصطفى…
في لحظة مفصلية من تاريخ الصراع الكردي – التركي، خرج عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، برسالة مصوّرة من داخل سجنه بعد سنوات من العزلة، ليُعلن ما يشبه “نهاية مرحلة وبداية أخرى”. لم تكن كلماته عادية، بل بدت كأنها البيان الأخير لقائد أمضى عقوداً في النضال المسلح، ليقرّ أخيراً أن هذا الطريق قد بلغ نهايته، وأن “الكفاح السياسي الديمقراطي هو السبيل القادم”.
أوجلان أكد في رسالته أن الهدف الأساسي من نضال الحزب قد تحقق، وهو الاعتراف بالهوية الكردية، داعياً إلى تسليم السلاح طوعاً والانتقال إلى مسار النضال السياسي والقانوني؛ أما الأكثر وقعاً في كلمته، فهو إعلانه الصريح أن “الكفاح المسلح ضد تركيا قد انتهى”، وهذا ما يفتح الباب على مرحلة جديدة غير مسبوقة في تاريخ حزب العمال الكردستاني، وربما في مسار القضية الكردية ككل.
لم يمر هذا الإعلان دون تفاعل سياسي لافت، إذ سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى التأكيد بأن حكومته لن تسمح لأي جهة داخلية أو خارجية بتخريب عملية نزع السلاح، مشيراً إلى أن تركيا بدأت فعلاً بالتخلص مما سماها “القيود الدموية”، في إشارة إلى عقود الصراع الدامي بين الدولة التركية والأكراد؛ كما أعلن عن “تطورات إيجابية مرتقبة” على صعيد القضية الكردية، في مشهد يشي بأن الحكومة التركية بدأت فعلاً بتهيئة المناخ لمرحلة جديدة.
في المقابل، أعلن “حزب المساواة والديمقراطية للشعوب”، المحسوب على الأكراد في تركيا، أن عملية تسليم السلاح ستبدأ في مدينة السليمانية شمال العراق، في 11 تموز الجاري – اليوم –، مؤكداً أن هذه الخطوة تُعدّ “تاريخية”، وداعياً إلى استثمارها لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والأكراد على أساس الحقوق المتبادلة والاعتراف المتبادل.
لكن، كما في كل تحوّل جذري، فإن التحديات لا تزال حاضرة؛ فالقضية الكردية في تركيا معقدة أكثر بكثير من نظيرتها في العراق أو إيران وحتى في سوريا، بسبب وجود “دولة مركزية قوية ذات طابع عسكري واضح”، حيث ما زال للجيش القومي التركي تأثيره الكبير على القرار السياسي والرأي العام؛ ولربما “الخط القومي” في تركيا قد يعيق تقدم أي عملية سلمية، خصوصاً إذا ما اصطدمت بالمزاج الوطني أو بمصالح المؤسسة العسكرية.
وعليه هناك مخاوف في احتمال ظهور انقسامات داخل صفوف “العمال الكردستاني” ذاته، خاصة من طرف الجناح المتشدد المحسوب على جميل بايك – أحد القادة الخمس المؤسسين للحزب -، والذي قد يرى في رسائل أوجلان “خضوعاً تحت الضغط التركي”، ويعتبرها تنازلاً غير مقبول. وهناك، بحسب تسريبات، من يلمّح إلى أن هذه الرسائل ربما كُتبت تحت الإكراه أو التأثير، مستغلين تقدم أوجلان في العمر كذريعة لرفض قراراته.
أما على مستوى التأثيرات الإقليمية، فما يحدث في تركيا لا يمكن فصله عن وضع الأكراد في العراق، وخصوصاً في إقليم كردستان. فرغم العلاقة الاستراتيجية التي نشأت منذ التسعينات بين تركيا وبعض القوى الكردية في العراق، تبقى العلاقة محفوفة بالتعقيدات، خاصة مع وجود عناصر مسلحة تابعة لحزب العمال الكردستاني داخل أراضي الإقليم، والذين بحسب محللين كُرد يتقاضى بعضهم رواتب من المنظومة الدفاعية العراقية – ما يشكل عبئاً أمنياً على الإقليم والدولة العراقية على حد سواء.
بل إن هذا التداخل بين الأذرع المسلحة والميليشيات المدعومة إيرانياً في العراق يجعل أي محاولة لفك الارتباط بين حزب العمال والدول المجاورة مهمة شبه مستحيلة من دون دعم دولي واضح. وأمام هذه المعطيات، يبقى التحدي الأكبر هو ضبط الداخل الكردي قبل الحديث عن طي صفحة الحرب، خصوصاً في ظل معلومات عن أكثر من 200 قرية شمال العراق ما زالت تحت سيطرة مقاتلي الحزب، إلى جانب ملايين الألغام المزروعة على الحدود بفعل سنوات القتال.
ختاماً، يمكن القول إن إعلان أوجلان هو بمثابة فرصة تاريخية، لكنه لا يعني أن المسار بات سهلاً أو خالياً من العثرات. فبين الداخل التركي المربك، والانقسام الكردي، والتقاطعات الإقليمية، تبرز عملية السلام كرهان كبير، لا يملك أي طرف ترف التفريط به.
