خاص الهديل….

قهرمان مصطفى
في معظم بلدان الشرق الأوسط التي عانت من انهيارات أو اضطرابات كبرى، يتكرر المشهد نفسه: سلاح منفلت من قبضة الدولة، جماعات خارجة عن الشرعية، ودولة تحاول استعادة سلطتها في ظل ميزان قوى غير متكافئ؛ علماً أن هذه الظاهرة ليست محض تكرار عشوائي، إنما نتيجة خلل بنيوي عميق رافق نشوء الدولة الحديثة في المنطقة، وتجلّى في هشاشة المؤسسات، وضعف العقد الاجتماعي، وفشل السياسات في تحقيق الحدّ الأدنى من العدالة والمواطنة المتساوية.
يتقدّم السلاح المنفلت من قبضة الدولة عادةً في لحظات الانهيار، حين تتراجع الدولة أو تتفكك مؤسساتها. وربما ينجح، لفترة قصيرة، في فرض سلطته بفضل تحالفات داخلية أو دعم خارجي.. لكنه، مهما بلغ من القوة، يصطدم بسقف لا يمكن تجاوزه: غياب الشرعية. فلا جماعة مسلحة، مهما ادعت تمثيل فئة أو قضية، قادرة على الحلول محلّ الدولة بالكامل أو على نيل قبول شعبي شامل، أو اعتراف إقليمي ودولي مستدام.
في معظم التجارب، يبدأ السلاح المنفلت من قبضة الدولة باعتباره بديلاً للسلطة، ثم يكتشف تدريجاً استحالة التحوّل إلى كيان جامع، وعند أول اختبار جدي – سواء بسبب تغير المعادلات الإقليمية أو ضغوط داخلية – تبدأ مسارات المساومة: تقديم السلاح مقابل النفوذ، أو الاستمرار في حمله مقابل تقويض ما تبقى من الدولة. وهكذا، يتحوّل “الاستقرار” إلى حالة زائفة، هشّة، قائمة على توازنات قسرية وليس على عقد اجتماعي حقيقي.
ما حدث في سوريا، كما في ليبيا واليمن ولبنان، يبيّن بوضوح أن الإخفاق لم يكن فقط في إدارة التحوّلات، بل في تأسيس الدولة من الأصل. دول لم تُبنَ على قاعدة مواطنة، بل على توازنات طائفية أو عشائرية أو أمنية، فتراكمت فيها عوامل الانفجار. وعندما حلّ السلاح المنفلت من قبضة الدولة مكان السلطة، لم يملأ الفراغ بل وسّعه؛ فبدل أن يعيد ضبط الفوضى، شرّع لها الأبواب.
تُظهر التجربة العراقية نموذجا مغايراً: هناك، تماهت الدولة مع حاملي السلاح المنفلت من قبضتها، وتحول هؤلاء من قوة متمردة إلى جزء من السلطة. لكنها لم تتحوّل إلى دولة فعلية، بل إلى كيان متنازع عليه داخليا وخاضع خارجيا؛ وفي لبنان، تسلّل السلاح المنفلت من قبضة الدولة إلى مؤسساتها، ثم تجاوزها بفرض إرادته في حرب غير متكافئة ضد إسرائيل، وبدلاً من استخلاص العِبر، واجه الدولة بالرفض المستمر للتخلّي عن سلاحه. أما في سوريا، فسقط جيش الدولة مع النظام السابق، ودُمّرت معظم قدراته الدفاعية، لتواجه السلطة الجديدة تحدياً وجودياً في إعادة توحيد الأرض والشعب، وفي إعادة تأسيس الدولة من نقطة الصفر.
في المحصلة، لا سلاح خارج قبضة الدولة يُنتج دولة، ولا جهة مسلّحة مهما دعمتها قوى كبرى تُنتج استقراراً؛ والتاريخ المعاصر، من كردستان العراق إلى البلقان إلى تركيا مع حزب العمال الكردستاني، يوضح أن أي مشروع مسلح منفلت، حتى لو امتد لعقود، يصطدم في النهاية بجدار الحاجة إلى الدولة – الدولة وحدها.