خاص الهديل..

قهرمان مصطفى
لفهم أي حدث تاريخي، علينا أن ننتبه إلى أمرين أساسيين: النقطة التي نبدأ منها القصة، والزاوية التي نختار النظر منها. هذا قد يبدو بديهياً، لكنه في الحقيقة جوهري. تجاهله يؤدي إلى تشويش الذاكرة الجماعية، ويشوّه السياسات والمواقف، سواء على مستوى الدول أو الأفراد.
في بعض الأحيان، يكون تغييب هذه الحقيقة نتيجة ضعف في التفكير النقدي أو سيطرة انحيازات شخصية. لكن في أحيان أخرى، يكون التلاعب متعمداً.. أي يُقصى جانب من الحقيقة لصالح رواية مصمّمة لأهداف سياسية أو شخصية.
يقول الكوميدي الأميركي ديك غريغوري: ” كريستوف كولومبوس لم يكتشف أميركا، لأنها لم تكن ضائعة”!. العبارة تبدو طريفة، لكن في مضمونها تفكيك لرواية مترسخة؛ ففكرة أن كولومبوس “اكتشف” أميركا تمسح من الذاكرة قروناً من الوجود البشري والثقافي للشعوب الأصلية على تلك الأرض. حتى مصطلح “العالم الجديد” ليس بريئاً، بل يعكس عقلية استعمارية اختزلت حضارات بأكملها في مجرد “أرض مكتشفة” صالحة للسيطرة والاستغلال.
المدارس الأميركية رسّخت هذا السرد: التاريخ يبدأ مع الأوروبيين، ومعهم فقط. السكان الأصليون؟ شخصيات هامشية في قصة البطولة الغربية، يظهرون أحياناً كعقبات، وأحياناً لا يظهرون على الإطلاق.
كل ذلك كان نتيجة قرار؛ قرار بأن تكون بداية القصة هي لحظة وصول كولومبوس، وبأن تُروى القصة بعدسة استعمارية لا تعترف بالمساواة في الإنسانية.
هذا المثال يجب استحضارهُ حين نتأمل الطريقة التي تُغطى بها حرب إسرائيل على غزة، خصوصاً في الإعلام الأميركي. ففي كل تقرير تقريباً، هناك جملة ثابتة: “بدأت الأعمال العدائية في 7 أكتوبر 2023، عندما شنّ مسلحو حماس هجوماً على إسرائيل، قتل فيه 1200 شخص وأُخذ 250 رهينة”. هذه الجملة أصبحت بمثابة افتتاحية إلزامية، وكأنها تعويذة تشرّع كل ما بعدها.
لا أحد ينكر أن ما جرى في 7 أكتوبر كان صادماً لإسرائيل. خرق أمني هائل تبعه هجوم مسلح، وخطف رهائن.. الخ. لكن المشكلة تكمن في اختزال الحدث الكبير والمعقّد إلى لحظة واحدة فقط، وكأن التاريخ بدأ من هناك.
قبل أسابيع من ذلك اليوم، يقول مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن إن “الشرق الأوسط يمرّ بفترة من أكثر فتراته هدوءاً”. هذا التصريح يكشف طريقة الرؤية: إذا لم يُصب الإسرائيليون، فإن كل شيء على ما يرام. أما حصار غزة المستمر منذ سنوات، وحرمان الفلسطينيين من أبسط حقوقهم، وتصاعد عنف المستوطنين، فكلها أمور لا تُرى.
منذ ذلك اليوم، ومع تصاعد أعداد القتلى المدنيين الغزاويين، وقصف المدارس والمستشفيات، ومنع الغذاء والماء والدواء، وتدمير أحياء بأكملها — كانت الردود دائماً تكرر الجملة ذاتها: “حماس بدأت”، “ماذا عن الرهائن؟”. وكأن معاناة شعب كامل تُمحى بجملة واحدة.
لطالما امتلكت إسرائيل قدرة كبيرة على فرض روايتها: وعد بلفور أعطاها “حقاً”، 1948 كانت “معركة بقاء”، 1967 كانت “دفاعاً عن النفس”. هذه كلها بدايات مختارة، تُقصى منها روايات أخرى، ويُصاغ التاريخ وفق منظور المنتصر.
هذا النمط ليس حكراً على إسرائيل. هو شائع في كل صراع تُحتكر فيه الرواية من طرف واحد. حين يُبنى السلام على سردٍ زائف، فإن النتيجة غالباً ما تكون هدنة هشة، تتبعها كارثة.
خلاصة القول.. فإن السعي نحو السلام الحقيقي يتطلب شجاعة في مراجعة القصص التي نرويها، والاعتراف بأن لكل طرف ذاكرته، وألمه، وصوته. فتجاوز السرديات الأحادية ليس تبريراً للعنف، بل هو شرط من شروط العدالة والقيادة الصادقة، وهي للأسف، غائبة اليوم.