الهديل

خاص الهديل: رحل زياد وترك البرودة تعبث في اجسادنا 

خاص الهديل..

غنوه دريان….

زياد الرحباني يرحل،تاركا وراءه بيتاً فوضوياً، وآلات موسيقيةً وأجهزةً صوتيةً أفسدتها الكهرباء المتقطعة في بلد خرّبه الوقت والحرب.

يرحل تاركاً تفاصيل عاشها مع رفاقه من أجيال مختلفة، أولئك الذين علّمهم كيف يتذوّقون الموسيقى، لا كمجرد أصوات، بل كأسلوب حياة.

رحل وترك مسرحاً مهجوراً، بارداً، مشرّع الستائر، وبلا جمهور.

رحل دون أن يودّع البزق الذي عشقه، ودون أن يقبل العلاج، في تمرّد جديد على المرض، وعلى القدر، وعلى منطق الانصياع.

أطفأ زياد “الضوّ” للمرة الأخيرة،

وأشعل في قلوب محبّيه ورفاقه لعنة الفقد.

ذاك الفقد الذي لطالما تحدّث عنه، وعرفه، وسخر منه، وها هو ذا يُخلّفه فينا اليوم بكل ثقله.

 

على ظهر القدر، فرض زياد نفسه كثائر مرن، شديد الحضور، وعبقريّ لا يتكرر.من المسرح إلى الموسيقى، ومن البرامج إلى المقابلات، كان دائماً يتحرك بين رفض السائد وصناعة الذائقة. أعاد للكلمة بساطتها، وللّحن عمقه، وللتوزيع الموسيقي عبثه الخلّاق.

كان زياد حالةً فنيةً ومعرفيةً لا تشبه إلا نفسها. زياد لم يكن مجرد فنان، بل كان مشروع وعي كاملاً. كان يكتب عن الحب والفقر والانهيار بلغة لا يمكن تقليدها، ويصنع من الغضب لحناً، ومن السخرية سلاحاً، ومن الإحباط نبضاً حقيقياً.

حرّر صورة الفنان من قفص الترفيه الرومانسي، وحوّله إلى صانع رأي، ناقد اجتماعي، ومثقف متمرّد، سواء في أعماله أو في تصريحاته. لم يهادن ولم يُجامل.

فرض احترامه بصوته الأجشّ وكلماته الحادّة، وأجبر محبّيه على رفع معاييرهم، فرفع معهم الذوق، ورفع من فكرة الفنّ نفسها. وبرغم اختلافي مع كثير من توجهاته السياسية، إلا أنني لا أستطيع تجاوز تأثيره في فكري، وفي نظرتي إلى الحياة، وللآخر، والفن، والموسيقى.لقد ترك أثراً عميقاً فيّ، سواء شئت أم أبيت، وكان لا بدّ أن أمرّ به كي أفهم شيئاً جديداً عن ذاتي، وعن العالم.ليس من السهل أن تحبّ “زياد”، ولا أن تكرهه. هو من أولئك الذين يربكون تصنيفاتنا الجاهزة، ويهزّون يقيننا، ويجبروننا على إعادة النظر في كل شيء: الفن، السياسة، الحب، الناس، وأنفسنا.

يقول ما لا يُقال، ويضحك حيث لا يُضحك، ويبكي بين السطور دون أن يلين. لهذا لم يكن فناناً للراحة، بل فناناً للمواجهة.

حتى بعد رحيله، تبقى “حالة زياد” حالةً استثنائيةً، تستحق أن تُفكّك، أن تُدرَّس، أن يُنظر إليها بعمق، بعيداً عن التقديس، وبعيداً عن النكران.

ففيها من التناقض ما يكفي لتكوين مدرسةً، وفيها من الصدق ما يكفي لإعادة طرح السؤال القديم:

ما دور الفنّان؟ وما حدود الفن؟ في قلب هذا العدم، وفي زمن يهيمن فيه الإحباط، أقف اليوم أمامك أستاذاً ومعلماً ورفيقاً، لا لأرثيك فحسب، بل لأتعلّم منك من جديد، وأعدك أن أستمع إليك كل يوم، في أغنية، أو تسجيل، أو حوار… لتخبرني “شو بقدر أعمل لملايين المساكين”.

Exit mobile version