خاص الهديل….

بقلم: ناصر شرارة
لم يحدث الاعتداء الإسرائيلي على الدوحة من خارج سياق الأحداث الجارية في المنطقة منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣.
.. طول نحو عامين تقريباً، حدثت في المنطقة انهيارات كبيرة وتطورات عسكرية واستراتيجية كثيرة، وكان وراءها جميعها تقريباً شخصية سياسية واحدة تدعى بنيامين نتنياهو.
حالياً وصل نتنياهو إلى لحظة غير مقرؤة؛ فهو من جهة مطلوب من أعلى محكمة عالمية بتهم جرائم حرب؛ وهو من جهة ثانية مطلوب للقضاء داخل إسرائيل ذاتها بقضايا فساد؛ ومن جهة ثالثة يدعي نتنياهو عينه بأنه “سينقي” كل الشرق الأوسط من أي “خطر راهن أو قد يبرز في المستقبل على إسرائيل.. يطلق نتتياهو على استراتيجيته هذه شعار “النصر المطلق”.. القادة العسكريون الإسرائيليون يعتبرون مصطلح “النصر المطلق” يصلح لأن يكون شعاراً انتخابياً بأكثر من كونه يعبر عن رؤية عسكرية لهدف الحرب.
يتزامن طرح شعار “النصر المطلق” لنتنياهو مع شعار آخر يطرح مقولة “تحرير أميركا”، وذلك من قبل شخصية لا تقل غرابة عن نتنياهو، وهو ترامب الذي أعلن أنه ماض في حرب تجارية عالمية هدفها تحرير الولايات المتحدة الأميركية من الاضطهاد الاقتصادي الذي – بحسب خطابه – يمارسه كل العالم تقريباً عليها.
الواقع أن كلتي الشخصيتين يعتزمان خوض حرب طويلة المدى زمنياً، مسرحها بالنسبة لنتنياهو كل الشرق الأوسط، ومسرحها بالنسبة لترامب كل العالم.
ويشترك الرجلان أيضاً في أنهما لا يعترفان بإرث تأسيي سبقهما: فنتنياهو يعتبر أن بن غوريون “مؤسس دولة إسرائيل”، بنى دولة ليس لتخلص اليهود من الاضطهاد، بل لتخدم طبقة اليهود الاشكناز الذين همشوا اليهود السفارديم واليهود غير اليساريين؛ فيما ترامب يعتبر أن رؤوساء أميركا الذين سبقوه صنعوا العولمة التي أضرت بمصالح أميركا لصالح منافستها الصين. وكما أن نتنياهو يريد الانقلاب على إرث بن غوريون وبناء الدولة اليهودية القومية بدل الدولة اليهودية الإشتراكية (الاستيطاني – الكابوتس) فإن ترامب يريد أيضاً إلغاء كل الاتفاقات العالمية التي أبرمتها الولايات المتحدة الأميركية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى اللحظة التي سبقت دخوله للبيت الأبيض، وذلك لمصلحة اتفاقات تلغي نتائج التجارة العالمية وتعيد المصانع الأميركية إلى داخل أميركا..
.. “التغير” و”الانتقام من المؤسسين” و”عدم احترام الاتفاقات السابقة” لحكمهما؛ هي كلها مشتركات تحدد ما يجمع بين ترامب ونتنياهو؛ حيث الأخير يتعمد في كل مناسبة إظهار عدم احترامه لكل الاتفاقات التي أبرمتها إسرائيل مع دول المنطقة؛ فهو يتحدى اتفاقات كامب ديفيد مع مصر؛ وهو يدمر تحت ضوء الشمس اتفاق أوسلو، وهو لا يحترم الاتفاقات ذات الطابع الاقتصادي التي أبرمتها إسرائيل مع دول عربية؛ ويقوم بتهديدها أو حتى بالاعتداء عليها كما فعل مع قطر وكما سبق وفعل مع مصر بخصوص معبر فيلادلفيا. وبخصوص اتفاق الهدنة ١٩٧٤ مع سورية فهو أطاح به؛ وهدد أيضاً بأن الاتفاق البحري مع لبنان لا يحظى برضاه..
الفكرة المشتركة الاخرى وربما الأعمق بين نتنياهو وترامب هي أن كليهما في حالة حرب طويلة المدى؛ وميدانها إقليمي بالنسبة للأول، وعالمي بالنسبة للثاني.
وداخل هذه الجزئية يوجد سؤال مركزي يجدر طرحه وانتاج إجابة شافية عليه ومفاده: أين تتقاطع المصالح الأميركية الإسرائيلية داخل حربي نتنياهو وترامب؟؟.
.. حتى هذه اللحظة هناك نقطة تقاطع استراتيجية تبدو لحد بعيد واضحة؛ وهي أن الرجلين يحاولان فرض واقع جديد في فضائهما العالمي والإقليمي، مؤداه تثبيت أن بلديهما لا زال لهما اليد الطولى العسكرية في فضائهما؛ وأكثر من ذلك لا يزال لديهما التفوق الكاسح على كل الدول التي تطرح نفسها أنها دول ندية لأميركا في العالم ولإسرائيل في المنطقة. بكلام آخر: نتنياهو يريد عبر القوة تنصيب إسرائيل إمبراطورية مهيمنة وحيدة في الشرق الأوسط.. وبالاحرى يريد نتنياهو إعادة ميزة الهيمنة في المنطقة لإسرائيل التي كانت حصلتها بعد حرب العام ١٩٦٧؛ ثم بدأت تتآكل بفعل حرب ١٩٧٣ ومن ثم انسحاب شارون من غزة والانسحاب من جنوب لبنان، وعدم القدرة على الحسم المطلق في حرب ٢٠٠٦ وفي حروب الاستتباع التي جرت مع حماس في غزة. في هذه الحرب الدائرة منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ يريد نتنياهو إثبات أن إسرائيل تتفوق ليس فقط على حماس وحزب الله والحرس الثوري الإيراني بل على كل المنطقة، وأن المطلوب من كل دول المنطقة إبداء علامات الاذعان للتفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح والقادر على إبادة شعب (مثال غزة) وتدمير أنظمة (مثال سورية) ومطاولة أي هدف مهما كان بعيداً (اغتيال هنية في طهران واغتيالات قطر وضرب إيران). بالمقابل يريد وترامب التأكيد على أن الإخفاقات العسكرية التي طالت أميركا في العقود الثلاث الأخيرة أنتجت تصوراً خاطئاً يقول أن أميركا لم تعد القطب الاوحد في العالم، بل أصبحت قطباً إلى جانب عدة أقطاب ينافسونها وأبرزهم الصين.
واضح أن واشنطن سواء مع بايدن أو مع ترامب بشكل خاص تستغل حروب إسرائيل الحالية المفتوحة كي تثبت أن تصور تراجع قوة أميركا هو تصور خاطئ. وترامب بعد بايدن يريد من خلال دعم أميركا المطلق العسكري والسياسي لإسرائيل؛ أن يظهر أن هيمنة نتنياهو على المنطقة هو واحد من تعبيرات قوة أميركا في العالم وليس انعكاساً لقوة إسرائيل بحد ذاتها. ويريد من خلال إشاعة هذه الفكرة التأكيد على الفكرة الأصل وهي أن الولايات المتحدة لا تزال هي الأقوى في العالم؛ وبهذا المعنى تكون واشنطن تستغل وتوظف أحداث الشرق الأوسط لتبين للعالم أن القطب المهيمن رقم واحد لا يزال هو الولايات المتحدة الأميركية بدليل أن حليفتها إسرائيل التي هي أصغر دولة في المنطقة تنجح بفضل الدعم الأميركي بالهيمنة على كل دول المنطقة؛ وتنجح بخوض سبع حروب والانتصار فيها جميعها بوقت واحد..
خلاصة القول أن إسرائيل كانت تحتاج لاعتراف المنطقة بأنها استعادت هيمنتها العسكرية على كل فضائها الإقليمي القريب والبعيد؛ وبالمقابل فإن واشنطن كانت بحاجة بنفس الوقت لإثبات أنها لا تزال القطب الوحيد المهيمن على العالم، وهي استخدمت غطرسة نتنياهو لتؤشر إلى أن مصدر قوته تكمن في أنه حليف للقوة الأميركية التي لا تزال هي الأولى والوحيدة في العالم.. والواقع أن نتنياهو بمشروعه للهيمنة على الشرق الأوسط يشكل حاجة لمشروع أميركا الراهن الذاهب لإثبات أن كل التنظير عن أن العالم يتجه ليصبح متعدد الاقطاب هو وهم، والدليل على ذلك نموذج إسرائيل التي تهيمن – مستعينة بقوة أميركا – على كل الشرق الأوسط..
.. هذه الأعوام الراهنة التي تمر بها المنطقة، هي بحق أعوام إعطاء أوضح الأمثلة دموية من قبل واشنطن وتل أبيب على أنهما قادرتين على استعادة معادلة الهيمنة المطلقة على الشرق الأوسط وانطلاقاً منه على العالم، وليس فقط استعادة معادلة القوة.