خاص الهديل…

لا شك أن الشعار الذي رفعته القمة العربية الإسلامية التي انعقدت في الدوحة بمحاسبة إسرائيل، جاء رداً على العدوان على قطر، في لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، حيث تمادت تل أبيب بسفاح عصرها في سياسة المروق والعدوان التي باتت تطال الجميع بلا استثناء، خصوماً وحلفاء على السواء. فمن الهجوم على طهران قبل أسابيع، إلى الاستهداف المباشر للدوحة، مروراً بخطاب بنيامين نتنياهو عن حلم “إسرائيل الكبرى”، نجد أنفسنا أمام تجاوز غير مسبوق لكافة الخطوط التي قامت عليها اتفاقيات السلام في المنطقة.
ولعل هذا التمادي يُعتبر تهديداً صريحاً لا يطال دولة بعينها، وإنما يمسّ الأمن الجماعي في الشرق الأوسط، وهو ما يستدعي عملاً إقليمياً موحداً يواجه حالة الجنون والتوحش التي تتبناها إسرائيل في علاقاتها مع دول الجوار.
وفي هذا السياق، جاء خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال القمة ليشكل تشخيصاً دقيقاً للحالة الراهنة، في ظل الاعتداءات الإسرائيلية المتواترة. فالهجوم على قطر يعكس ثلاثة مسارات متوازية: أولهما أن الدوحة، التي لطالما لعبت دور الوسيط، وُضعت في خانة “العدو” إلى جانب إيران، التي طالها القصف الإسرائيلي مؤخراً. وثانيهما أن تل أبيب تسعى إلى توسيع نطاق الحرب واستدامتها، ما يؤكد تخليها عن خطاب السلام والاندماج الإقليمي. أما المسار الثالث، فيتمثل في تراجع اعتبارها للحليف الأمريكي، إذ لم تتردد في انتهاك سيادة دولة عربية ترتبط بعلاقات وثيقة بواشنطن ومركزاً لأهم وأكبر قاعدة لها في الشرق الأوسط “قاعدة العديد”، وهو ما يضع إدارة الرئيس دونالد ترامب في موقف بالغ الحرج.
الخطاب المصري، وإن لم يوجه صراحةً إلى الولايات المتحدة كما في قمة بغداد، حمل إشارات واضحة إلى خطورة السلوك الإسرائيلي، محذراً من “ضياع جهود الأسلاف سدى”، في إشارة إلى الجهود التاريخية لبناء السلام. وهذه رسالة موجهة إلى أطراف عدة: إلى الشعب الإسرائيلي الذي يدفع ثمن سياسات حكومته، وإلى تل أبيب نفسها، وأيضاً إلى واشنطن التي لطالما كانت الراعي الرسمي لاتفاقية “كامب ديفيد”.
أما الرسالة الأوضح للقاهرة، فهي أن استمرار الحماية الأمريكية لتل أبيب سيؤدي إلى انهيار ما بناه جيمي كارتر قبل عقود، وسيجعل خطاب الرئيس ترامب عن “صناعة السلام” مجرد سراب، خصوصاً أن واشنطن لم تلتزم يوماً بتحقيق العدالة للفلسطينيين، أو الدفاع عن حل الدولتين باعتباره أساس الاستقرار. هذا الموقف يعكس إما انحيازاً أعمى لإسرائيل، أو غياب إدراك حقيقي بمركزية القضية الفلسطينية في الأمن الإقليمي.
من هنا، فإن ما جرى في الدوحة لم يكن مجرد رد فعل دبلوماسي على عدوان عابر، بل كان إيذاناً بلحظة تحوّل استراتيجية، خرجت فيها المنطقة من دائرة التوصيف الرمزي إلى الاعتراف الصريح بالواقع: إسرائيل لم تعد كياناً محتلاً فحسب، بل تحولت إلى عدو مباشر يهدد الأمن الجماعي. وفي المقابل، أعادت القاهرة ع لسان رئيسها عبدالفتاح السيسي، صياغة معادلة الردع السياسي بخطاب متزن لكنه حاسم، لتضع واشنطن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التخلي عن الرعاية العمياء لمشروع خرج عن السيطرة، أو مواجهة تحلل ما تبقى من شرعيتها الإقليمية، أمام دول لم تعد تقبل بأن تكون رهينة لحليف متمرد على قواعد النظام الدولي ذاته.

