خاص الهديل….

لعل ما يجري اليوم في شمال شرق سوريا من تحرك روسي في مدينة القامشلي لا يمكن النظر إليه كتحركات عسكرية اعتيادية. فمن يتابع المشهد هناك يلحظ أنّ موسكو لم تكتفِ بتسيير دوريات روتينية، بل ذهبت على نحو إعادة ترتيب قواعدها (في مطار القامشلي)، إدخال معدات جديدة، توسيع مقار إقامة جنودها، ونشر منظومات دفاع جوي، في خطوة أقرب إلى إعادة تموضع عسكري شامل.
ويمكن القول أن هذا التطور يتجاوز البعد الأمني الميداني ليحمل رسائل سياسية مزدوجة. فمن جهة، تريد روسيا أن تقول لواشنطن إنها قادرة على ملء أي فراغ قد يخلّفه تراجع الدور الأميركي في المنطقة. ومن جهة أخرى، تسعى إلى تذكير أنقرة بأن اتفاق سوتشي 2019 لم يُدفن بعد، وأن العودة إلى طاولة التفاهمات الثنائية تبقى خياراً مطروحاً، خصوصاً على صعيد الحدود ومصير قوات “قسد”.
اللافت أن هذه العودة الروسية تأتي في لحظة إقليمية ودولية دقيقة. فموسكو الغارقة في الحرب الأوكرانية تسعى لإظهار قدرتها على الحركة في أكثر من مسرح، وتأكيد أنها ليست في موقع المتراجع أو المحاصر؛ فسوريا بالنسبة إليها ليست فقط قاعدة عسكرية على المتوسط، بل ورقة سياسية وأمنية قادرة على التأثير في حسابات خصومها وشركائها على حد سواء.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن أمام استراتيجية روسية طويلة الأمد لإعادة تثبيت الحضور في شمال شرق سوريا، أم أن ما نراه مجرد خطوات تكتيكية تهدف إلى استعراض النفوذ وشراء الوقت؟
قد يقول البعض إن موسكو تستعد لمرحلة جديدة من التفاهمات مع أنقرة، وربما حتى مع واشنطن، بما يضمن لها دور “الضامن” في معادلة معقّدة تتقاطع فيها المصالح الإقليمية والدولية. غير أن الواقع على الأرض يشي بأن الروس، مهما بلغت قدرتهم على المناورة، يواجهون بيئة متقلبة: قوات أميركية متمركزة، قوى كردية مدعومة غربياً، ونظام سوري جديد يسعى لبسط السيطرة على كامل الجغرافيا السورية.
من هنا، فإن التحركات الروسية، مهما بدت واثقة، تبقى محكومة بمعادلة هشّة: تعزيز نفوذ مقابل تحديات غير محسومة. قد تتمكن موسكو من تثبيت حضورها مؤقتاً، لكن استدامة هذا الحضور مرهونة بتفاهمات أوسع، تتجاوز حدود القامشلي إلى خرائط الصراع الكبرى بين موسكو وواشنطن، وموسكو وأنقرة، بل وحتى موسكو وتل أبيب.
الخلاصة أن روسيا تسعى للعودة بقوة إلى المشهد السوري الشرقي، لكن السؤال الأهم لم يُحسم بعد: هل تمتلك خطة استراتيجية طويلة الأمد، أم أننا أمام فصل جديد من لعبة التكتيكات التي اعتادت موسكو أن تجيدها في أكثر من ساحة؟

