كتب القاضي م جمال الحلو
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.
هَا هُوَ القَاضِي المُحِبُّ، وَرَفِيقُ الدَّرْبِ الوَفِيُّ، القَاضِي حَسَن شَحْرُور، قَدْ أَلْقَى عَصَا التَّرْحَالِ، وَغَادَرَ دَارَ الفَنَاءِ إِلَى دَارِ البَقَاءِ، حَيْثُ لَا نَصَبَ وَلَا لُغُوبَ، وَحَيْثُ الحِسَابُ وَالجَزَاءُ. رَحَلَ الرَّجُلُ الهَادِئُ الطِّبَاعِ، الرَّقِيقُ الخُلُقِ، السَّامِي فِي صَمْتِهِ كَمَا فِي نُطْقِهِ، الرَّفِيعُ فِي عَطَائِهِ كَمَا فِي زُهْدِهِ، تَارِكًا فِي النُّفُوسِ لَوْعَةً لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا الصَّبْرُ الجَمِيلُ.
يَا أَبَا جَادٍ، كَيْفَ لَا تَبْكِيكَ القُلُوبُ قَبْلَ المَآقِي، وَأَنْتَ الَّذِي عُرِفْتَ بَيْنَ القُضَاةِ بِالعَدْلِ وَالرَّزَانَةِ، وَبِالحِرْصِ عَلَى الحَقِّ وَالإِنْصَاتِ لِنِدَاءِ الضَّمِيرِ؟ كُنْتَ مُنْذُ أَنْ دَخَلْتَ مِحْرَابَ القَضَاءِ مُحِبًّا لِلْحَقِّ، مُصْغِيًا لِلْمَشُورَةِ، صَادِقًا فِي المَوَدَّةِ، وَإِذَا لَقِيتَنِي بَادَرْتَ بِالتَّحِيَّةِ الصَّافِيَةِ، وَاحْتَفَيْتَ بِي احْتِفَاءَ الأَخِ المُحِبِّ، مُنَادِيًا إِيَّايَ بِمَا غَمَرَنِي فَخْرًا: «الرَّيِّسُ أَبُو مُحَمَّدٍ». فَهَلْ يَنْسَى القَلْبُ مِثْلَ هَذَا الوِدَادِ؟ هَيْهَاتْ.
إِنَّكَ لَمْ تَرْحَلْ وَحْدَكَ، بَلْ تَرَكْتَ وَرَاءَكَ ذِكْرًا عَطِرًا، وَزَوْجَةً صَالِحَةً، مُحَامِيَةً فَاضِلَةً، وَأَبْنَاءً وَبَنَاتٍ هُمْ زِينَةُ الخُلُقِ وَالقِيَمِ: ابْنٌ مُحَامٍ يَسِيرُ عَلَى خُطَاكَ، وَابْنَتَانِ مُحَامِيَتَانِ تَجْعَلَانِ مِنَ العَدْلِ رِسَالَتَهُمَا، وَابْنَةٌ قَاضِيَةٌ تَحْمِلُ شُعْلَةَ الحَقِّ بَعْدَكَ. فَهَؤُلَاءِ جَمِيعًا مِنْ كِرَامِ النَّاسِ أَدَبًا وَخُلُقًا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا مِنْ غَرْسِ يَدَيْكَ وَفَضْلِ تَرْبِيَتِكَ. وَكَذَلِكَ إِخْوَتُكَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِالمُرُوءَةِ وَالصَّفَاءِ، فَهُمْ امْتِدَادٌ لِطِيبِ مَعْدِنِكَ وَأَصَالَةِ أَصْلِكَ.
أَيُّهَا الرَّاحِلُ العَزِيزُ، إِنَّ المُصَابَ جَلَلٌ، وَإِنَّ الفَقْدَ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّنَا لَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي اللَّهَ: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. فَالمَوْتُ حَقٌّ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابًا، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُهُ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَكَ بِرَحْمَتِهِ الوَاسِعَةِ، وَيَغْفِرَ لَكَ زَلَلَكَ، وَيَجْعَلَ قَبْرَكَ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَأَنْ يُفِيضَ عَلَى ذَوِيكَ وَمُحِبِّيكَ الصَّبْرَ وَالسُّلْوَانَ.
سَلَامٌ عَلَيْكَ يَوْمَ عِشْتَ لِلْحَقِّ قَاضِيًا، وَيَوْمَ رَحَلْتَ لِلِّقَاءِ رَبِّكَ خَاشِعًا، وَيَوْمَ تُبْعَثُ حَيًّا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

