بقلم القاضي م جمال الحلو
في وطنٍ يَئنُّ تحتَ وطأةِ الأزماتِ، ويُصارِعُ للبقاءِ بينَ أمواجِ الفسادِ والإهمالِ، تأتي فاجعةُ “المِيَاهِ المُلوَّثَةِ” كطعنةٍ جديدةٍ في خاصرةِ المواطنِ، وكجرسِ إنذارٍ يَدُقُّ بعنفٍ على أبوابِ الضمائرِ النائمةِ، علَّها تستيقظُ قبلَ أن يتحوَّلَ الماءُ — هذا السائلُ الذي بهِ تُحيَا النفوسُ — إلى سببٍ لهلاكِها.
لقد صدرَ قرارُ وزيرِ الصحَّةِ بوقفِ إحدى شركاتِ المياهِ وسحبِ منتجاتِها من الأسواقِ، بعد أن تبيَّنَ أنَّ ما يُقدَّمُ للشعبِ على أنَّهُ “ماءٌ نقيٌّ” ليسَ سوى مزيجٍ من الغشِّ والإهمالِ واللامبالاةِ؛ ماءٌ فقدَ عذوبتَهُ وطهارتَهُ ونقاءَهُ الذي هو أصلُ الحياةِ.
أيُّ جرمٍ أعظمُ من أن يُسمَّمَ الشعبُ من صنبورِ بيتِهِ؟!
أيُّ ذنبٍ ارتكبَهُ هذا المواطنُ الذي يكدحُ ليشتري قنِّينةَ ماءٍ آمِنَةٍ، فإذا بها تحملُ له المرضَ بدلَ العافيةِ؟!
أيُّ دولةٍ تلكَ التي لا تستطيعُ أن تضمنَ لأبنائِها أبسطَ مقوِّماتِ الحياةِ، وهي “شربةُ ماءٍ”؟!
إنَّ القضيَّةَ ليستْ مسألةَ تلوُّثٍ فحسب، بل مسألةَ ضميرٍ تجرَّدَ من إنسانيَّتِه، وتخلَّى عن مسؤوليَّتِه الأخلاقيَّةِ والوطنيةِ. كيفَ يُسمَحُ بتمريرِ منتجٍ يهدِّدُ صحَّةَ المواطنِ إلى رفوفِ الأسواقِ؟ أينَ كانتْ أجهزةُ الرقابةِ؟ أينَ المختبراتُ؟ أينَ المحاسبةُ؟
يا سادةَ القرارِ، الماءُ ليسَ سلعةً تُباعُ وتُشترى، بل هو حقٌّ مقدَّسٌ لا يُمسُّ، وحينَ يُلوَّثُ هذا الحقُّ، فكلُّ ما بعدَهُ يُصبِحُ عبثًا، إذ لا حياةَ تُرجى في وطنٍ يبيعُ ماءَهُ ملوَّثًا، ولا مستقبلَ يُرجى لشعبٍ يُسقى الغشَّ بدلَ الصفاءِ.
إنَّ ما جرى ليسَ حادثةً عابرةً تُطوى ببيانٍ وزاريٍّ أو بإغلاقِ مصنعٍ واحدٍ، بل هو جريمةٌ أخلاقيَّةٌ واقتصاديَّةٌ واجتماعيَّةٌ تُحتِّمُ فتحَ كلِّ ملفاتِ الرقابةِ والمراقبين، ومساءلةَ كلِّ من تواطأ بالصمتِ أو بالتغاضي. فالتهاونُ في الماءِ هو تهاونٌ في الحياةِ نفسِها، ومن يستهينُ بسلامةِ المواطنِ لا يستحقُّ أن يُؤتمنَ على الوطنِ.
يا أبناءَ هذا الوطنِ الجريحِ، إنَّ الماءَ الذي نُدافعُ عنهُ اليومَ ليسَ مجرَّدَ سائلٍ يروي العطشَ، بل رمزًا لكرامتِنا، لحقِّنا في العيشِ الكريمِ، لوجودِنا الذي يُرادُ له أن يذوبَ في وحولِ الفسادِ. فلتكنْ هذه الفاجعةُ صفعةَ صحوةٍ لنا جميعًا: مسؤولين ومواطنين، إعلامًا ومجتمعًا مدنيًّا، حتى لا يتكرَّرَ المشهدُ غدًا مع غذائِنا أو هوائِنا أو دوائِنا.
إنَّ الماءَ أمانةٌ في أعناقِنا، فمن خانَ الأمانةَ وجبَ أن يُحاكمَ بلا تردُّد، ومن تستَّرَ على الجريمةِ شريكٌ فيها. ولْيكنْ شعارُنا من اليومِ:
“لا تسامحَ مع من يعبثُ بالحياةِ.”
