خاص الهديل….

قهرمان مصطفى…
لم يكن سقوط النظام السوري مجرّد حدث داخلي يطوي صفحة نصف قرن من حكم آل الأسد، بل شكّل زلزالاً إقليمياً أعاد خلط الأوراق، خصوصاً في لبنان الذي عاش لعقود على إيقاع النفوذ السوري المباشر. ومع تراجع حليف دمشق الأبرز، حزب الله، بعد سلسلة ضربات إسرائيلية أنهكت بنيته الداخلية، بدا أن المنطقة بأسرها تستعد لمرحلة جديدة من إعادة التموضع.
لكنّ المفارقة أنّ ما انتظره اللبنانيون والسوريون من انفراجٍ في العلاقات بعد انهيار النظام، تحوّل إلى حالة من الانكماش الحذر والجمود الرمادي. أُغلقت الحدود فعلياً، وتعقّد التنقّل بين البلدين كما لم يحدث حتى في أشد مراحل التوتر خلال عهد الأسد.
التصريحات المتبادلة بين الجانبين السوري واللبناني ظلّت إيجابية في الشكل، بينما بقي الجوهر غارقاً في تاريخٍ من الريبة والاختلاف في الأولويات، حيث لم تغيّر التحوّلات السياسية جذور الحساسيات الطائفية ولا الذاكرة المثقلة بالمواجهات.
في هذا المناخ المضطرب، حملت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بيروت على رأس وفدٍ رسمي، في أول زيارة من نوعها منذ سقوط النظام، رسائل تصالحية ظاهراً، لكن خلف الأبواب المغلقة طغى الحذر. الملف الأبرز كان قضية الموقوفين السوريين، التي اعتبرتها دمشق اختباراً لجدّية بيروت في بناء علاقة جديدة؛ حيث طالب الشيباني بإفراج سريع عن عدد منهم خلال أيام، معتبراً أن الخطوة ستكون مؤشراً سياسياً بقدر ما هي قانونيّة، لكنّ الرد اللبناني جاء متمسّكاً بمسار القضاء، مؤكداً أن أي إجراء خارج الإطار القضائي الطبيعي مستحيل دستورياً.
بالنسبة لسوريا، فإن هذا الملف لا يُقاس بحجمه الإنساني فقط، بل بكونه معياراً لمدى استعداد لبنان للتعامل بندّية إيجابية بعيداً عن العقد القديمة. أما في بيروت، فالمشهد أكثر تعقيداً. الرئيس جوزاف عون، الذي يمسك فعلياً بمفاصل القوة عبر الأجهزة الأمنية، يجد نفسه في موقعٍ دقيق بين ضرورات الدولة ومخاوف القواعد التي يمثلها. هذه القواعد – ومعظمها من البيئة المسيحية – ما تزال تنظر بعين الريبة إلى دمشق، مدفوعةً بذاكرةٍ عسكرية مؤلمة جمعت قائد الجيش السابق مع القوات السورية على طرفي جبهة القتال في عرسال ومعركة فجر الجرود.
ومن هنا تبقى الأولوية اللبنانية واضحة: عودة اللاجئين السوريين. إلا أن دمشق تعتبر أن أي عودة قسرية في الوقت الراهن غير ممكنة، لأن البلاد لا تزال في طور إعادة البناء. من جهتها، ترى بيروت أن سوريا تتلكّأ في التعاون، في حين تعتبر دمشق أن لبنان لا يلتزم بما عليه في ملفات أمن الحدود، وضبط التهريب، ووقف استقبال رموز النظام السابق.
بالنسبة لرئيس الحكومة نواف سلام فيبدو أنه يسعى لفتح خط مع دمشق وهذا الخط يبدو أنه يُثير امتعاضاً في بعض الأوساط اللبنانية، التي ترى أن لبنان يغامر بالابتعاد عن لحظة إقليمية تشهد تشبيكاً عربياً واسعاً، يشمل الانفتاح على تركيا وأوروبا، فيما يبقى هو عالقاً في حسابات داخلية ضيقة.
ومع أنّ الحذر اللبناني مفهوم في سياق التاريخ الطويل بين البلدين، إلا أن المبالغة فيه تُفوّت على لبنان فرصة نادرة لالتقاط أنفاسه اقتصادياً. فسوريا اليوم، بخلاف الماضي، لا تسعى إلى الغرق في الملف اللبناني، بل تُعلن بوضوح رغبتها في بناء علاقة متوازنة لا وصاية فيها.
والواقع أن الخلافات السياسية والقانونية مهما تعقّدت، تظل قابلة للحل متى تغيّرت النوايا. فالعقدة ليست في التفاصيل، بل في الصورة الذهنية التي يحملها كل طرف عن الآخر. حين تُعدَّل هذه الصورة، يصبح الطريق إلى الشراكة ممهداً، والتفاصيل مجرد تحصيل حاصل.

