خاص الهديل…

قهرمان مصطفى..
يبدو أن صعود الرئيس السوري أحمد الشرع درجات الكرملين الطويلة لم يكن مجرّد لحظة بروتوكولية في زيارة رسمية، بل مشهداً سياسياً يعكس صعوداً معكوساً في موازين القوة بين دمشق وموسكو. فالدرج الذي بدا وكأنه يقود نحو القصر، كان في الحقيقة اختباراً للياقة السياسية الروسية، لا لللياقة البدنية السورية.
روسيا التي اعتادت على التعامل مع دمشق كحليف تابع، تجد نفسها اليوم أمام شريك يريد إعادة تعريف العلاقة من أساسها. سوريا ما بعد الأسد ليست الساحة نفسها التي بنت موسكو فوقها نفوذها العسكري والسياسي منذ عام 2015، ولا هي الدولة التي يمكن اختزالها في قواعد بحرية وعقود تسليح. إنها اليوم دولة تحاول ترميم علاقاتها الإقليمية والعربية، وتتحرك في فضاء أوسع يعيد رسم مكانها في الشرق الأوسط الجديد.
زيارة الشرع إلى موسكو لم تكن لإعادة تأكيد الولاء، بل لإعادة ضبط البوصلة. فالشرع، الذي كان قبل سنوات الهدف العسكري الأول لروسيا في إدلب، أصبح اليوم يجلس على طاولة تفاوض متكافئة مع بوتين. ليس هو من يملي الشروط، لكن الوقائع الجديدة هي التي تمليها على الطرفين: سوريا لم تعد ورقة مجانية في يد أحد، وروسيا لم تعد تملك ترف تجاهل التحولات.
ومع ذلك، يبدو أن الزيارة لم تخلُ من الحديث حول الاتفاق على توسيع التعاون في مجالات إعادة الإعمار والبنى التحتية، واستمرار الدعم الروسي في تسليح الجيش السوري وتطوير قدراته الدفاعية، إلى جانب ضمان تدفق واردات النفط والغاز الروسي إلى دمشق.. ولا سيما أيضاً اعتماد سوريا على القمح الروسي كمصدر أساسي للأمن الغذائي، في المقابل احتفاظ موسكو بقواعدها في طرطوس واللاذقية. أما الملف الأكثر حساسية، فتمثل في تعهد دمشق بالتعاون مع موسكو لمعالجة المخاوف الروسية من المقاتلين الأجانب والشبكات المسلحة العابرة للحدود، في محاولة لتخفيف هواجس الكرملين الأمنية.
الرسالة التي حملها الشرع إلى الكرملين كانت واضحة: “لقد صعدنا الدرج للوصول إليكم، لكن عليكم أن تصعدوا معنا سلّم التغيير”. فالعلاقة القديمة التي بناها نظام الأسد على التبعية والابتزاز انتهت بسقوطه، وما سيأتي بعدها يحتاج إلى مراجعة كاملة للمصالح والمواقف.
سوريا الجديدة لا تريد قطع الجسور مع موسكو، لكنها ترفض أن تبقى تحت ظلها. فالتقاطع مع روسيا لا يعني الخضوع لها، والندية لا تعني القطيعة. الشرع يفاوض اليوم من موقع دولة خرجت من وصاية، لا من حرب فقط.
ومع كل المكاسب التي حققتها موسكو في سوريا، تدرك القيادة الروسية أن استمرار نفوذها لم يعد مضموناً. فدمشق اليوم تتحدث مع واشنطن عبر وساطة سعودية، وتفتح قنوات مع باريس وأنقرة ودول الخليج. أما موسكو، التي كانت وحدها الشريك السياسي والعسكري الأوحد، تجد نفسها مطالبة بمراجعة دفاترها القديمة قبل أن تخسر آخر أوراقها في المشرق.
لقد كانت الحرب السورية بالنسبة إلى روسيا فرصة لتثبيت نفوذها، لكنها اليوم تحولت إلى عبء يهدد صورتها ودورها. والزيارة الأخيرة لم تكن لإصلاح العلاقة فقط، بل لتحديد إن كانت هذه الشراكة قادرة على البقاء في عالم تغيّر.
إزاحة بشار الأسد لم تنهِ مرحلة سياسية فحسب، بل أنهت نموذج علاقة بني على شخص لا على دولة، وعلى تبعية لا على مصالح متبادلة. لذا، فامتحان موسكو الآن ليس في قدرتها على الدفاع عن حليفها، بل في قدرتها على التكيف مع سوريا مختلفة، تتحدث بلغة الموازنة لا الولاء.
وعليه يمكن القول أن الدرج الطويل في الكرملين لم يكن رمزاً لجهد سوري نحو روسيا، بل تنبيهاً لروسيا بأن الطريق نحو دمشق الجديدة لن يكون سهلاً. فإما أن تصعد موسكو هذا الدرج نحو شراكة متكافئة، أو تواصل الهبوط وحدها من موقع فقدَ كثيراً من وزنه.
في النهاية، ما بدا مشهد استقبال، كان في الحقيقة اختبار وداع محتمل. فالشراكة بين دمشق وموسكو ستبقى ممكنة فقط إذا تخلت روسيا عن غرور القوة، واعترفت بأن سوريا الجديدة لم تعد ساحة نفوذ لأحد، بل دولة تحاول أن تعيد تعريف نفسها… ومعها، تفرض على الآخرين إعادة تعريف علاقاتهم بها.

