(بقلمٍ ينهل من معين البيان ويستروح عبير البلاغة)
يا لُغَةَ الضّاد، يا فَجرَ الحُروفِ إذا تنفَّس، ويا نُورَ البيانِ إذا أشرقت أنوارُه، لكِ في كلِّ عصرٍ رُوّادٌ مخلصون، وأئمّةٌ حُفّاظٌ نذروا أنفسهم لصونك وخدمتك. غير أنّ فيهم عَلَمًا سامقًا، يفيض فكرًا ويتألّق أدبًا، عميدًا في علمه، وأديبًا في طبعِه، وشاعرًا في فطرته، هو العلّامةُ الدكتور محمد توفيق أبو علي، عميدُ كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية الأسبق، والمرجعُ اللغويُّ الذي يُركن إليه، والموسوعةُ المتكاملةُ التي لا يضيع فيها المعنى ولا يضلّ فيها القارئ طريق البيان.
إنّه فرقدُ الضّاد، ابنُ بجدتها، مجبولٌ من طينة الإبداع، مخمورٌ برحيق البيان. من عرفه علم أنّ اللغة في حضرته تستعيد شبابها، وأنَّ النحو على شفتيه يبتسم بعد طول عبوس، وأن البيان، حين يمرّ من بين أنامله، يتلألأ كدُرّةٍ في تاج الملوك.
هو موسوعةٌ متكاملة، إذا جلست إليه أدهشك غزارة علمه، ورقّة ذوقه، واتّساع أفقه، ينهل من التراث صفْوَه، ويعيد صياغته بماءِ الذهب وعبير الفكر النضير.
وفي أدبه، ترى العقل والقلب متعانقين، كأنّهما وُجدا ليخطّا معًا صفحةً واحدةً من البيان. في شعره صدى المعلّقات وجزالة العباسيين ورقّة الأندلسيين، فإذا قرأت له وجدت في بيتِه عبق الياسمين، وفي قافيته بلسم الحنين، وفي معانيه شجن الأنين.
إنّه شاعرٌ نادر المثال، يذكّرك بكلّ العصور، ويُذكّرك بنفسه قبل سواه، إذ لا يُشبه أحدًا، لأنه اختطّ لنفسه دربًا فريدًا، لا يسير فيه إلّا من أوتي من البيان ما يُؤتَى الطيرُ من انسياب الجناح.
أما نثرُه، فهو سحرٌ لا يخبو، وكلماتٌ تتراقص على الأسماع كأنها نوتات موسيقيّة، وتُزهر على العيون كلوحاتٍ من الجمال، تخلق في السمع ألحانًا وفي البصر لوحاتٍ منمّقة بألوان الزخرفة وفضاء الخيال الرحب. كل مؤلَّفٍ من مؤلَّفاته عالمٌ قائمٌ بذاته، فيه من عمق الفكر ما يُغني، ومن نضارة الأسلوب ما يفتن، ومن أصالة الروح ما يُحيي.
لقد حظي الدكتور محمد توفيق أبو علي بمسيرةٍ أكاديميةٍ حافلةٍ بالإنجازات، إذ تقلّد منصب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية، وكان له أثرٌ بارزٌ في تطوير المناهج اللغوية والأدبية، وتنمية البحث العلمي في اللغة العربية وآدابها.
عُرف بين زملائه وطلابه بالعلم الغزير، والأخلاق الرفيعة، والقدرة الفذّة على جمع المعلومة وربطها بسلاسةٍ بين النظرية والتطبيق، حتى أصبح نموذجًا يُحتذى به في التدريس والبحث الأكاديمي.
وُلد الدكتور محمد توفيق أبو علي في بلدة كـامد اللّوز في البقاع الغربي بتاريخ 11 آب 1953، ونشأ على حبّ اللغة العربية وتراثها، فاختارها سبيل علمه ورسالة عمره.
نال شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، وتخصّص في أدب الجاهلية وحضارتها، وقضايا الأسلوبية واللغوية، وطرائق تعليم اللغة العربية.
امتاز بحقلٍ بحثيٍّ واسعٍ شمل الأدب الجماهيري، وعلم العَروض، والعادات والتقاليد، وطرائق تدريس العربية، فكان عالمًا موسوعيًّا يجمع بين الدقّة الأكاديمية وذوق الأديب وإشراقة الشاعر.
وقد تُوّج عطاؤه بتولّيه منصب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية، فقادها برؤيةٍ تطويريّةٍ جمعت بين الأصالة والتحديث، وأسّس لمرحلةٍ أكاديميةٍ راقيةٍ ما زال صداها حاضرًا في أروقة الجامعة وبين طلابه.
بهذا الجمع بين التدريس والبحث والشعر والأدب، صار الدكتور محمد توفيق أبو علي رمزًا حيًّا للّغة العربية، ومرجعًا يُعتمد عليه، وعلامةً فارقةً في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، فكان بحقّ العميد الدائم الذي لا يزول أثرُه، ولا تنطفئ شمسُه، وما دامت العربية حيّةً، سيبقى حضورُه علامةً مضيئةً في سماء الفكر والبيان.
فما أشبهه بعميدٍ لا تُحدّ ولايته بزمن، ولا تنتهي رئاسته بانتهاء عهدٍ أكاديميٍّ أو وظيفةٍ إداريّة؛ لأنّه العميد الدائم، في اللغة عمادُها، وفي البيان سيادتُها، وفي الأدب رئاستُها.
هو العنوان الذي لا يُمحى من صفحات العربية، والسراج الذي يهدي السائرين في دروبها إلى نقاء المعنى وبهاء الصياغة.
سلامٌ على هذا العَلَم الوارف، وعلى حروفه التي تتوهّج كالنجوم، وعلى حضوره الذي يجمع بين العلم والروح، وبين الفكر والعاطفة، وبين العربيّة في صفائها والإنسانيّة في عمقها.
سلامٌ عليه ما دامت العربية تنبض، وما دام في الكلمة عشق، وفي البيان حياة.
هو، بلا منازع، العميد الدائم للّغة العربية وجمالها وعمقها الإنساني والوجودي.
القاضي م. جمال الحلو
