اللواء الدكتور الحميدان: السودان بين الامل والرماد
بقلم: اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
اندلعت الحرب في السودان في ابريل الفين وثلاثة وعشرين عندما انفجرت التناقضات بين الجيش والدعم السريع فانهارت العاصمة وتبعثرت مؤسسات الدولة وتراجعت فرص الانتقال المدني الذي حلم به السودانيون بعد ثورة ديسمبر فأصبح المدنيون هم الضحية الاولى إذ اتسع نطاق النزوح والاقتتال وانهارت الخدمات الاساسية وامتدت المعارك من الخرطوم إلى دارفور وكردفان والجزيرة وتبدلت الخرائط الميدانية مرات عديدة بينما لم ينجح الاطراف السودانيه جولات الوساطة المتعاقبة في جدة وجنيف في تثبيت وقف اطلاق نار حقيقي أو ضمان ممرات انسانية آمنة.
فالسلاح بقي لغة التفاوض الوحيدة وسيطرت منطق القوة على حساب القانون والانسان وكرامته وفي قلب هذه المأساة تشكلت اكبر ازمة نزوح داخلي في تاريخ السودان اذ تجاوز عدد النازحين داخل البلاد عتبة تسعة ملايين وتزايدت اعداد اللاجئين إلى دول الجوار وتفاقمت المجاعة في مناطق من دارفور مع انهيار سلاسل الامداد الطبية والغذائية واصبحت اكثر من نصف السكان بحاجة إلى مساعدات فورية بينما يتهشم الاقتصاد وتتآكل العملة وتتفكك شبكات الانتاج في الزراعة والرعي والتجارة ويتعمق اقتصاد الحرب والجباية والتهريب .
وتدخلت اطراف متعدده بصورة مباشرة وغير مباشرة عبر التسليح والتمويل والدعاية مما اطال امد الصراع واختلطت الحسابات الداخلية بحسابات الجوار والبحر الاحمر والقرن الافريقي واصبح الجيش يراهن على استعادة الدولة عبر الحسم العسكري بينما يراهن الدعم السريع على استنزاف طويل يمنحه شرعية الامر الواقع .
وبين الرهانين تتسع الفجوة بين السلطة والسكان وتتراجع الثقة في النخب العسكرية والمدنية معاً وتبقى الحركة المدنية السلمية متناثرة لكنها لم تختف إذ ما زالت قادرة على صياغة خطاب وطني جامع اذا توافرت لها الحماية ومساحات العمل الآمن . والسؤال إلى اين يأخذنا كل هذا الذي ربما يحمل ثلاث مسارات محتملة الاول مسار الاستنزاف الطويل الذي يحول السودان إلى فسيفساء من الكانتونات العسكرية والقبلية وتهاجر فيه الكفاءات وتتجذر الجريمة العابرة للحدود وهذا هو السيناريو الاسوأ لأنه يكرس تفكيك الدولة ويؤسس لدورات عنف لا تنتهي والثاني مسار الحسم الجزئي عبر تقدم طرف في جبهة او اكثر لكنه لن ينهي الحرب بل سيعيد انتاجها بأسماء جديدة لأن اسبابها البنيوية ستبقى من دون معالجة مثل مركزية السلطة والاقتصاد وضعف المؤسسات وغياب عقد اجتماعي متوافق عليه والثالث مسار التسوية القسرية التي تجمع بين وقف اطلاق نار مراقب دولياً وممرات انسانية ملزمة وترتيبات امنية انتقالية تفرض بالاضافه إلى نزع سلاح تدريجي وتأسيس سلطة مدنية انتقالية بمرجعية دستورية مؤقتة تعالج قضايا الحكم المحلي وتقاسم الموارد والعدالة الانتقالية وتعيد بناء المؤسسة العسكرية على عقيدة وطنية واحدة مع رقابة مدنية فعالة وهذا المسار هو الاكثر صعوبة لكنه الاصلح لمستقبل السودان لأنه يعيد السياسة إلى ميدانها الطبيعي ويغلق اقتصاد الحرب ويعيد الاعتبار للمواطنة والحقوق والحريات . ولهذا السودان إلى اين هو سؤال ارادة قبل ان يكون سؤال وساطة فإن نقطة البدء الواقعية هي الاعتراف بأن لا نصر حاسماً ولا صفراً كبيراً وأن حماية المدنيين وفتح الممرات الانسانية وتدفق التمويل الاغاثي العاجل شروط اخلاقية وقانونية لا مساومة عليها وأن اي مفاوضات لا ترتكز إلى هذه القاعدة مصيرها ربما عدم النجاح .
ولهذا ربما على المجتمع الدولي والاقليمي ان يوحد مقارباته ويضبط تدفقات السلاح ويقرن الوعود بعقوبات ذكية قابلة للتنفيذ على من يعرقل ويسمح في المقابل بحوافز اقتصادية لاعادة الاعمار مرتبطة بخارطة طريق واضحة للانتقال المدني وعلى الفاعلين المدنيين السودانيين ان يعيدوا لملمة صفوفهم حول برنامج حد ادنى ينهي التشرذم بين مبادرات العواصم وبين اصوات الشارع ويقدم اجابة عملية على سؤال الحكم المحلي والعدالة والاقتصاد عبر مؤتمر وطني واسع التمثيل يسبق الانتخابات ولا يلغيها . فالسودان إلى اين يتوقف على قدرة ابنائه وبناته على تحويل الفاجعة إلى عقد وطني جديد يوحد الجيش على عقيدة واحدة ويعيد السلطة إلى المدنيين ويضع الثروة في خدمة الناس ويثبت ان ما بدأ كثورة من اجل الحرية والسلام والعدالة يمكن ان ينتهي بدولة مواطنة وقانون لا بمزرعة حرب إلى ما لا نهاية .
@alatif1969
*المقالات والآراء التي تنشر تعبّر عن رأي كاتبها*
