اللواء الدكتور الحميدان: لبنان بعد التسويات المؤجلة حرب قادمة أم توازن مستحيل؟
بقلم: اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
استكمالاً للمقال السابق الذي تناول معادلة الدولة والسلاح بعنوان (لبنان بين النار أو التسويات الممكنة) الذي تم نشره بتاريخ 4 نوفمبر 2025
يبدو أن لبنان يقف اليوم أمام منعطف أكثر حدة إذ إن غياب التوافق الداخلي حول مصير السلاح الخارج عن سلطة الدولة على كافة الأراضي اللبنانيه يضع البلاد أمام احتمالات تتجاوز أزماته المعتادة نحو سيناريوهات تهدد بنيته الوطنية ووجوده السياسي نفسه فالتاريخ اللبناني القريب يُظهر أن كل فراغ في السلطة الشرعية يملؤه حكماً من يمتلك القوة المادية وكل غياب للتفاهم الوطني يفتح الباب لتدخل الخارج وفرض معادلات جديده على لبنان .
إن بقاء السلاح خارج يد الدولة لا يعني فقط اختلالاً في موازين الأمن بل في مفهوم السيادة ذاته لأن السيادة لا تُقاس بالبيانات ولا بالخطب بل بقدرة الدولة على احتكار السيادة.
وإسرائيل وهي تراقب حدودها الشمالية لا تنظر إلى هذا الواقع ببرود فالعقيدة الأمنية الإسرائيلية قائمة على مبدأ الضربة الوقائية أي منع الخطر قبل أن يتحول إلى تهديد فعلي لأنها تعتبر أن أي سلاح لا يخضع لقرار مركزي واضح داخل لبنان هو تهديد مفتوح حتى لو لم يُستخدم ولهذا ربما انها لن تسكت طويلاً أمام استمرار هذا الواقع خصوصاً إذا شعرت أن الدولة اللبنانية عاجزة عن ضبطه أو غير راغبة في تحييده ضمن منظومة دفاع وطنية شفافة ومعلنة.
وفي حال استمر الجمود السياسي وتفاقم العجز المؤسساتي فإن احتمالات المواجهة ستزداد مع الوقت عبر عمليات أكبر أو ضربات موضعية تُبرر تحت عنوان الردع لكنها سرعان ما قد تتوسع إلى مواجهة مفتوحة يصعب احتواؤها لأن إسرائيل تريد الحرب وتؤيد منطق الفوضى في لبنان وهذا يجعل الخط الفاصل بين الاحتكاك والاشتباك غامضاً وهشاًً ومع كل تصعيد على الجبهة الجنوبية تتقلص قدرة لبنان على المناورة ويزداد خطر الانزلاق إلى صراع لا يملك أدواته ولا قراره.
وفي هذا السياق من الواضح أن إسرائيل لن تقف متفرجة أمام استمرار السلاح الخارج عن سيطرة الدولة خاصة أن هذا السلاح موزع بين أطراف لبنانية وأخرى فلسطينية داخل الأراضي اللبنانية وهو ما تعتبره تل أبيب تهديداً مضاعفاً ومتعدد الجبهات ومع تعقد المشهد الداخلي وتداخل الحسابات الإقليمية قد تستغل اسرائيل الفرصة لشن حرب ضروس على كافة الأراضي اللبنانية تحت ذريعة إزالة الخطر أو إعادة تشكيل ميزان الردع فستكون حرب كلفتها فادحة على لبنان دولةً وشعباً وبنيةً تحتية وقد تمتد إلى عمق المخيمات الفلسطينية والمناطق المدنية التي ترى فيها إسرائيل بيئات دعم أو إسناد لوجستي ومثل هذه الحرب لن تكون شبيهة بجولات سابقة محدودة النطاق بل مواجهة شاملة تعيد رسم الخريطة السياسية والأمنية برمتها.
لكن الأخطر من الحرب الإسرائيلية هو خطر الانقسام الداخلي إذ يمكن لأي اشتباك على الحدود أن يعيد فتح الجبهات السياسية والطائفية في الداخل خصوصاً في ظل مناخ اقتصادي واجتماعي بالغ الهشاشة حيث فقد الناس ثقتهم بالمؤسسات وتراجعت قدرتهم على الاحتمال.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى قراءة لبنانية جديدة لمفهوم الأمن الوطني قراءة تُدرك أن الأمن لا يتحقق بتعدد البنادق بل بوحدة المرجعية وأن الردع الحقيقي هو الذي يستند إلى شرعية الدولة لا إلى فائض القوة.
وفي المقابل ربما أن المجتمع الدولي سوف يتحرك في محاولة لتجنب انفجار واسع لاستقرار الإقليم ومنع موجات نزوح جديدة نحو أوروبا وقد تُفعّل قرارات دولية سابقة أو تُطرح آليات مراقبة أشد وستبقى المساعدات الاقتصادية مربوطه ببرامج إصلاح أمني وسياسي محددة المخرجات إلا أن هذه التدخلات ستبقى إدارة للأزمة لا حلاً لها لأن أصل المشكلة لبناني بامتياز وجذورها هو في غياب رؤية موحدة لدور الدولة وموقعها من الصراعات الإقليمية.
إن المخرج الوحيد الواقعي يبدأ من الداخل اللبناني وذلك من خلال إعادة دعم الشرعية الوطنية على أساس وطني بالالتزام باتفاق الطائف الذي عرف وظيفة السلاح في معادلة الدولة لا باعتباره أداة فئة أو طائفة بل جزءاً من منظومة الشرعية وخاضعاً للقرار السياسي المركزي ولرقابة دستورية كاملة وهذا المسار يتطلب إرادة سياسية شجاعة وإصلاحاً موازياً في مؤسسات الدولة وتوفير حماية اجتماعية واقتصادية لمن سيتأثرون لكي لايتحول انتقال احتكار السلاح للدوله إلى أزمة معيشية جديدة.
ولهذا لبنان اليوم يقف بين خيارين لا ثالث لهما إما أن يتخذ قراره الصعب في نزع ازدواجية السلاح والقرار عبر تسوية لبنانية شاملة تحمي الدولة وتضمن شراكة الجميع وإما أن يستمر في الدوران داخل حلقة استنزاف مفتوح تنتقل فيها النار من الحدود إلى الداخل ويصبح البلد ساحة لتجاذب الآخرين وإسرائيل لن تنتظر طويلاً لانها ربما تشن حربا على لبنان والمجتمع الدولي ايضا ربما لن يمنح لبنان وقتاً مفتوحاً والتاريخ لا يرحم من يُفوّت لحظة الحسم لإن الوقت المتاح للتفاهم يضيق والنافذة التي يمكن أن يمر منها الحل ما زالت مفتوحة لكنها تتقلص مع كل يوم إضافي من الانتظار لأن الدولة التي لا تحسم أمرها تُحسم عنها قراراتها.
وفي خضم هذا المشهد الإقليمي الملتبس يطفو على السطح سيناريو ثالث يفتح الباب لتساؤلات جديدة وهو ما تردد أخيراً على لسان المبعوث الأمريكي توم براك في مقابلة مع صحيفة الأهرام بتاريخ 13 يوليو 2025 حيث قال إذا لم تتحرك لبنان فستعود إلى أن تكون جزءاً من بلاد الشام مرة أخرى وبالرغم من انه عاد ووضّح موقفه الذي قال فيه إن تعليقاته لم تكن تهديدًا لـلبنان بل مدح لتقدم سورية وقال تعليقاتي بالأمس مدحت الخطى المثيرة للإعجاب لسوريا وليس تهديداً للبنان وهذا الأمر أثار اهتمام الأوساط السياسية والدبلوماسية لان هذا السيناريو وإن بدا بعيداً إلا أنه يعكس تفكيراً أمريكياً بإعادة ضبط التوازن الإقليمي من بوابة لبنان وسوريا عبر فتح قناة سياسية مشروطة قد تُفضي إلى مقايضة غير معلنة قوامها استقرار أمني واحتواء ضمن معادلة لبنانية سورية أمريكية دقيقة ومثل هذا التطور إن حصل سيعني عملياً عودة سوريا إلى الواجهة اللبنانية ولكن بغطاء دولي مختلف عن حقبة ما قبل 2005 وسيكون بمثابة اختبار لقدرة دمشق الجديدة على التحرك ضمن سقف التفاهم الأمريكي واختبار للبنان في قدرته على التعامل مع متغير بهذا الحجم دون انقسام أو ارتباك .
غير أن الخطوة لا تخلو من المخاطر إذ قد تُفسر كمقدمة لإعادة تدوير النفوذ السوري في الداخل اللبناني أو كرسالة أمريكية غير مباشرة للاحتواء عبر وساطة دمشق ما قد يفتح الباب أمام جدل داخلي جديد بين من يرى في التسوية فرصة للتهدئة ومن يعتبرها اختراقاً للسيادة الوطنية.
ومهما يكن فإن هذا السيناريو يؤكد أن الملف اللبناني لم يعد معزولاً عن التفاعلات الإقليمية الكبرى وأن أي تسوية أو انفجار قادم لن يكون لبنانياً خالصاً بل جزءاً من خريطة إعادة التموضع في الشرق الأوسط حيث تتقاطع قرارات واشنطن وتل أبيب وطهران ودمشق على أرض واحدة اسمها لبنان.
@alatif1969
*المقالات والآراء التي تنشر تعبّر عن رأي كاتبها*
