المركز الإسلامي – عائشة بكار
إستضاف القاضي الدكتور غالب غانم
نظم المركز الإسلامي – عائشة بكار وبالتعاون مع مركز صياغة للدراسات التشريعية ندوة بعنوان “أرض القضاء لأهل القضاء” ألقاها رئيس مجلس القضاء الأعلى سابقاً ورئيس مجلس شورى الدولة سابقاً القاضي الدكتور غالب غانم قدم لها وأدارها المحامي الأستاذ موفق ميرزا. حضرها سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان ممثلاً بفضيلة القاضي الشيخ وسيم فلاح ، دولة الرئيس الشيخ سعد الحريري ممثلاً بالمحامي محمد يموت، معالي وزير العدل الأستاذ عادل نصار ممثلاً بمدير عام وزارة العدل القاضي محمد المصري، معالي وزير الداخلية والبلديات العميد أحمد الحجار ممثلاً بالقاضي زياد أيوب، سماحة شيخ عقل الطائفة الدرزية الشيخ الدكتور سامي أبي المنى ممثلاً بالمحامي ماهر الأحمدية ، سعادة النائب فيصل الصايغ، سعادة مدير عام الامن العام اللواء حسن شقير ممثلاً بالمقدم محمد الحاج، معالي الوزراء السابقين الدكتور خالد قباني، العميد حسن السبع، النائب السابق الأستاذ محمد الأمين عيتاني، القضاة السادة جان فهد، زياد الشعراني، سعيد ميرزا، د. فوزي أدهم، مدير عام وزارة المهجرين الأستاذ أحمد المحمود، رئيس تحرير مجلة الشراع الأستاذ حسن صبرا، اللواء محمد خير، رئيس ملتقى بيروت الدكتور فوزي زيدان، رئيس جمعية متخرجي المقاصد الإسلامية الدكتور مازن شربجي، العميد المتقاعد خالد جارودي، رئيس هيئة الإسعاف الشعبي الأستاذ عماد عكاوي، الأستاذ سمير حمود، والمحاميين صائب مطرجي وعمر زين، الأستاذ محمد عفيفي، ورئيس المركز الإسلامي المهندس علي نور الدين عساف وأعضاء المركز ، وأعضاء من المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى وقضاة شرع وعلماء دين رؤساء الجمعيات الأهلية والفاعليات الإجتماعية والثقافية والكشفية والإعلامية وحشد من المهتمين.
بداية قراءة سورة الفاتحة على نية التوفيق ومن ثم النشيد الوطني اللبناني، ثم القى باسم المركز عضو الهيئة العامة في المركز الإسلامي الدكتور عبد الرحمن المبشر. كلمةً ترحيبية باسم رئيس وأعضاء المركز الإسلامي، رحّب فيها بالحضور الكريم، واستعرض بإيجاز أبرز نشاطات المركز في المجالات الثقافية والخيرية والاجتماعية والصحية، وأضاف أنّ المركز يتشرّف باستضافة القاضي والأديب الدكتور غالب غانم في رحابه،
ثم كانت كلمة التقديم للأستاذ المحامي موفق ميرزا ومما جاء فيها:
إن وجودنا في هذا الصرح الإسلامي العريق المركز الإسلامي في عائشة بكار يُحتِّم علينا أن نتحدث بإيجاز في هذه العجالة من الزمن عن استقلالية القضاء في الشريعة الإسلامية.
إنّ أي وطن يسعى إلى النهضة والخروج من الأزمات لن ينهض بقوة الإقتصاد وحده، ولا بقوةالسلاح بل أن نهوضه يكون بعودة هيبة ميزان العدالة وإقامة العدل بين الناس.
لقد أولى الإسلام القضاء مكانةً رفيعةً، فحمّل القاضي مهمة الفصل بين المتقاضين بالحق
ومن هنا جاء مبدأ استقلال القضاء، لا بوصفه مطلبًا سياسيًا، بل باعتباره عبادةً ومسؤوليةً وأمانةً بين يدي الله عز وجل.
والقاضي في الإسلام لا يحكم وفق هواه، ولا يخضع لنفوذ حاكمٍ أو حزبٍ أو عشيرة فهو مسؤول أمام الله وحده، ومُكلّف بأن يحكم بالحق ولو على نفسه.
قال رسول الله ﷺ:
«القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة؛ فأمّا الذي في الجنة فرجلٌ عرف الحق فقضى به، ومن ركائز القضاء في الإسلام النزاهة التامة ومحاربة الفساد : فقد حرّم الإسلام الرشوة بأشد العبارات، فقال النبي ﷺ:«لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما». فالقضاء في الإسلام سلطةٌ مستقلة، لا تتبع أهواء السلاطين والحكام، فقد أوجب الإسلام أن يعيش القاضي بكرامة، بعيدًا عن الحاجة، حتى لا يُساوَم على ضميره.
فهذا أمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه وقف خصمًا أمام يهوديٍ في قضية درعه المفقودة يخضع للقضاء، لا لسلطانه، بل لسلطة العدل. وفي عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، لما اشتكى أهل سمرقندَ أن فتحَ مدينتِهم تمّ دون إنذارٍ أو دعوةٍ إلى الإسلام، أمرَ عمرَ القاضي أن يَنظُر في الشكوى فأصدرَ القاضي حكمًا يقضي بخروج الجيش الإسلامي منها.
أخيرا اقول إن استقلال القضاء ليس ترفًا إداريًا ولا مطلبًا دستورياً، بل هو فريضة شرعية وركنٌ من أركان العدالة،
أيها الحضور الكريم يشرّفني اليومَ أن أقدّم لحضراتكم قاضٍ من لبنان هو الدكتور القاضي والأديب اللامع الرئيس غالب عبد الله غانم الغني عن التعريف فهو شَغَلَ أرفع منصبين في القضاء اللبناني، ولن أستفيض في سيرة هذا العملاق القضائي لأن الحديث عن سيرته يحتاج إلى وقت طويل لا يمكن حصره في دقائق معدودة، فلنستمع إليه ليرشدنا بحكمته كيف يكون القاضي مستقلًا في هذا الوطن لأنه الرجل الذي جمع بين الخبرة القضائية العميقة والإيمان الراسخ بمبدأ العدل..
ثم ألقى سعادة القاضي الدكتور غالب غانم محاضرته التي كانت بعنوان “أرض القضاء لأهل القضاء”، تحدّث فيها عن مفهوم استقلال القضاء من منظورٍ أخلاقيّ وفكريّ، مستلهمًا العنوان من شعارٍ قديم استوقفه في مطلع القرن العشرين هو “بلاد العرب للعرب”. ومنه استوحى فكرته بأنّ للقضاء أيضًا “أرضًا” هي سلطته وحدوده وكرامته، يجب أن تبقى مصونة من تدخّل السلطتين التشريعية والتنفيذية، سواء أكان ذلك عن غير قصدٍ أم عن سابق تصميم.
وأشار القاضي غانم إلى أنّ الدعوة التي تلقّاها من المركز الإسلامي لتناول الشأن القضائي جاءت مناسبة لتجديد التأكيد على هذا المبدأ، موضحًا أنّ محاضرته ستكون رافدًا من روافد كتابه الذي يتناول السؤال الجوهري: كيف يكون القضاء مستقلًا؟
وأوضح أنّه اختار هذه المرّة أن يقارب الاستقلال من زاوية مختلفة، هي دور الأخلاقيات (La morale) في جعل أرض القضاء للقضاء، سواء كانت هذه الأخلاقيات مطلوبة من السياسيين أم من القضاة أنفسهم.
ورأى أنّ استقلال القضاء يتعزّز كلّما انطبعت المواقف السياسية المتصلة به بالشفافية والتجرّد، مبيّنًا أنّ هناك ممارسات سياسية تُضعف هذا الاستقلال، أهمّها خمسة:
أولًا: الإخلال بمبدأ مراعاة المسافة الفاصلة بين السياسي والقاضي، مهما كانت الصلات أو العواطف المشتركة بينهما. فاحترام هذه المسافة، كما قال، هو التزام أخلاقي يقع على عاتق الطرفين معًا.
ثانيًا: الميل إلى اعتبار القضاء فرعًا من سلطة أخرى، وهو مفهوم خاطئ وخطِر في آن. وأوضح أنّ مجلس القضاء الأعلى خلال ولايته أعلن أكثر من مرة أنّ القضاء سلطة قائمة بذاتها لا فرع من سلطة، ردًّا على محاولات بعض الجهات التنفيذية الالتفاف على صلاحيات القضاء.
ثالثًا: ضرورة اجتناب تعطيل عمل الهيئات القضائية التي نشأت أصلًا بإرادة السلطة السياسية نفسها، إذ إنّ عرقلة عملها يفرغ الاستقلال من مضمونه.
رابعًا: وجوب الكفّ عن استخدام القضاء في النظام الخدماتي السائد في لبنان، أي في تبادل المنافع السياسية تحت عنوان “الخدمات القضائية”، لما في ذلك من مسٍّ بكرامة القضاء وحياده.
خامسًا: احترام القرارات القضائية في جميع الأحوال، حتى تلك التي تبطل قرارات صادرة عن السلطة السياسية أو تخالف مصالح بعض رجالها. وأضاف: “ما دمتَ أيها القاضي على يقين من علمك وحيادك، فقل مع القائلين: يا جبل ما يهزّك ريح”.
وأكد القاضي غانم أنّ الدعوة التي يطلقها الناس عادة إلى السياسيين: “ارفعوا أيديكم عن القضاء”، يجب أن تُقابل بنداء موازٍ إلى القضاة أنفسهم: “لا تدعوا السياسة تقتحم ملفاتكم”. فالمسؤولية مشتركة، والمناقبية القضائية لا تكتمل من دون نزاهة الداخل كما من دون حماية الخارج.
وتوقف عند وثيقة الأخلاقيات القضائية اللبنانية التي صدرت عام 2005 بمبادرة من مجلس القضاء الأعلى ومكتب مجلس شورى الدولة، والتي ساهم شخصيًا في صياغتها النهائية، مبيّنًا أنّها استندت إلى التراث القضائي العربي والإسلامي الغني بالمآثر، واستعادت عهود الخلفاء الراشدين ورسائلهم في آداب القضاء، مثل عهد الخليفة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، وعهد الإمام علي بن أبي طالب إلى مالك الأشتر.
وأشار إلى أنّ هذه الوثيقة اللبنانية حظيت لاحقًا بتبنٍّ عربي رسمي تحت اسم “وثيقة الشارقة”، أقرّها مؤتمر رؤساء أجهزة التفتيش القضائي العرب، ثم اعتمدها المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العدل العرب عام 2007، وهو ما اعتبره مصدر فخرٍ واعتزازٍ للقضاء اللبناني والعربي معًا.
ثم عرض القاضي غانم أهمّ المبادئ التي تضمنتها تلك الوثيقة، مؤكدًا أنّ القاضي الحقيقي هو من يدخل موقعه طليق اليدين ويغادره بلا خوفٍ من ماضيه، لأنّ القاضي الذي يحتكم إلى ضميره يدخل بلا قيد ويخرج بلا منّةٍ أو دَين، وتظلّ شمس ضميره لا تحرقه، بل يخرج مستظلًّا شجرة الكرامة، رمزًا للطمأنينة الداخلية التي ترافق القاضي النزيه بعد أداء رسالته.
ورأى أنّ القضاء لا يمكن أن يلبي تطلعات الناس إلاّ إذا تحلّى أعضاؤه بـ الشجاعة الأدبية، فهي جوهر العدالة الحقيقية، كما أكّد أنّ “ثقافة المسافة” لا تُطلب من السياسيين فحسب، بل هي قدرٌ محتوم على القضاة أنفسهم، فهي التي تحفظ التوازن بين القاضي وخصوم الدعوى، وبين ذات القاضي وذاته.
وفي سياق حديثه عن العلاقة بين القضاء والسلطة، شدّد على أنّ لكلٍّ من السلطتين قوّتها في مجالها، وأنّ المقارنة بينهما يجب أن تكون أخلاقية لا سلطوية. وقال عبارته البليغة: “إذا اعترى القاضي شعور بالضعف تجاه القويّ مات في نفسه نصف العدالة، ويموت نصفها الآخر إذا غطّى ضعفه هذا بالاستقواء على الضعيف.”
وختم القاضي غانم محاضرته بالتأكيد على أنّ استقلال القضاء ليس نصًّا قانونيًا فحسب، بل هو سلوكٌ أخلاقيّ وثقافةٌ عامة يجب أن تسود في مؤسسات الدولة وفي الضمير الوطني. وأردف أنّ بناء دولة القانون لا يقوم إلاّ على قضاءٍ قويٍّ نزيهٍ مستقلّ، تحكمه الأخلاق بقدر ما تحكمه النصوص. واختتم بقوله:
“أرض القضاء للقضاء تعني أن نحمي حماه من كلّ تدخلٍ أو استقواء، وأن نُبقيه واحة عدلٍ وضميرٍ وكرامة. فبه وحده يُقام العدل، وبه وحده يُصان الوطن.”
ثم كانت مداخلات للحضور أبرزها للأستاذ حسن صبرا، وللأستاذ محمد الأمين عيتاني،


