حروب المياه القادمة في الشرق الأوسط على حافة العطش السياسي
بقلم: اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
منذ منتصف القرن العشرين بُنيت الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط على النفط الذي صار الذهب الأسود مرادفًا للقوة والنفوذ ومصدرًا للشرعية السياسية لكن مع تحولات المناخ وتبدل أسواق الطاقة بدأت معادلة جديدة تتشكل بهدوء إذ أصبح (الماء والنفط) معًا الركيزتين الأساسيتين للهيمنة الإقليمية فالماء لم يعد موردًا بيئيًا فحسب بل تحول إلى عنصر قوة واستقرار ومصدر نفوذ جديد يدخل اليوم في حسابات الأمن القومي كما تدخل حقول النفط في حسابات السياسة والسلاح في الماضي حيث كانت الدولة التي تمتلك النفط هي من تمتلك قرار السوق العالمية أما اليوم فالدولة التي تمتلك النفط ومنابع الأنهار أو أحدث تقنيات التحلية هي من تمتلك قرار الحياة والاستقرار في منطقتها لان الماء صار نفطًا أزرق له القيمة الاستراتيجية والاقتصادية نفسها لكنه أكثر حساسية لأنه يرتبط بالحياة ذاتها ومن يسيطر على النفط والماء يملك قدرة التحكم بالأمن الغذائي والاجتماعي والسياسي.
بهذه المعادلة الجديدة أصبح الماء مثل النفط أداة نفوذ هادئة يُمارس بها الضغط وتُبنى بها التحالفات وتُرسم بها خرائط النفوذ وتتجلى الصورة في المشرق حيث تتعامل تركيا على نهري دجلة والفرات كما تعاملت الدول النفطية مع حقولها في القرن الماضي فمشروع جنوب شرق الأناضول منح أنقرة القدرة على التحكم في التدفقات المائية نحو العراق وسوريا فتحول الماء إلى ورقة تفاوض وضغط لا تقل أهمية عن السلاح أو الاقتصاد.
فالعراق الذي كان مهد الحضارات وأرض الرافدين يعاني اليوم من تصحر وجفاف يهددان بنيته الزراعية والاجتماعية وسوريا المنهكة من الحرب أصبحت رهينة الجفاف وتراجع الأنهار.
وفي الجنوب تتكرر المعادلة بين مصر وإثيوبيا في ملف سد النهضة فمصر ترى في النيل شريان وجودها واستمرارها التاريخي بينما تعتبره إثيوبيا رمز سيادتها ونهضتها الحديثة ومع تعثر المفاوضات أصبحت المياه هناك أداة ردع وموازنة قوى تشبه ما كان عليه النفط في السبعينيات حين استخدم كسلاح سياسي.
أما في المشرق العربي الأوسع فالمياه تشكل البعد الخفي للصراع العربي الإسرائيلي إذ تسيطر إسرائيل على معظم الأحواض الجوفية في الضفة الغربية وتفرض على الفلسطينيين شراء جزء من حاجتهم المائية منها فيما يعاني الأردن من فقر مائي متفاقم يدفعه إلى الدخول في مشاريع مشتركة وتحلية باهظة الثمن ولبنان بدوره يشكو من استغلال إسرائيل لمياهه في الجنوب.
وهكذا أصبح الماء في المشرق أداة احتلال ناعمة تعيد إنتاج السيطرة نفسها التي مارسها النفط في مناطق أخرى من العالم ففي الخليج العربي تتخذ المعادلة شكلًا مختلفًا لكن جوهرها واحد فدول الخليج التي بنت قوتها على النفط تدرك أن أمنها المائي هو الحلقة الأضعف في منظومتها الاستراتيجية إذ تعتمد بنسبة كبيرة على تحلية مياه البحر ما يجعل أي تهديد للممرات البحرية أو لمحطات الطاقة خطرًا مباشرًا على الحياة نفسها.
وهنا يلتقي النفط بالماء في شبكة واحدة من الاعتماد المتبادل فالماء يحتاج إلى طاقة لتحليته والطاقة تحتاج إلى استقرار لتشغيلها وكلاهما مرتبط بأمن الملاحة والتحالفات.
وهكذا لم يعد النفط وحده أداة الهيمنة بل صار الماء جزءًا من منظومة القوة ذاتها لإن التحول الحقيقي في الشرق الأوسط لا يكمن فقط في شح الموارد بل في تغير مفهوم الهيمنة ذاته فبعد أن كانت تقوم على السيطرة العسكرية أو النفطية أصبحت تقوم على السيطرة على عناصر الحياة والماء والنفط معًا لأنهما يشكلان اليوم نظامًا مزدوجًا للنفوذ نظرا لان من يملك أحدهما دون الآخر يظل ناقص القوة ومن يجمع بينهما يملك المستقبل.
ومن بين دول المنطقة أدركت المملكة العربية السعودية مبكرًا هذا التحول الجيوسياسي فتبنت رؤية 2030 التي لا تكتفي بتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط بل تربط أمنها الاقتصادي بأمنها المائي والغذائي فاستثمرت في مشاريع التحلية والطاقة النظيفة والزراعة المستدامة وربطت الأمن المائي بالأمن القومي.
السعودية لم تنسحب من معادلة النفط لكنها أعادت تعريفها من النفط إلى الماء إلى الطاقة المتجددة في منظومة واحدة من الاكتفاء والسيادة لانها أدركت أن العالم يتجه إلى عصر يصبح فيه التحكم في عناصر الحياة أهم من السيطرة على الأرض أو السوق ولذلك قررت أن تعتمد على نفسها وتنوع مصادرها لتبقى في قلب معادلة الشرق الأوسط الجديدة التي تدار لا بالبراميل وحدها بل أيضًا بالأنهار والسدود والمياه التي تمنح الحياة والسيادة في آن واحد.