خاص الهديل…
كهرمان مصطفى
حين رُفع علم قوات سوريا الديمقراطية فوق الباغوز في ربيع 2019، أُعلن حينها سقوط آخر رقعة جغرافية كانت “داعش” تقدّمها بوصفها نواة “الدولة”. لكن هذه النهاية كانت إقليمية فحسب، أما التنظيم ذاته فقد انزاح إلى ما وراء خطوط الظهور. من كيان يفرض إدارة ويجمع الضرائب ويحتكم بالسلاح في المدن، إلى خلايا صغيرة تعمل بالكمائن والاغتيالات وحرب الاستنزاف.
تراجع التنظيم جاء نتيجة تفكك شبكات تمويله وقيادته وتهاوي منظومته العسكرية بفعل الضربات العابرة للحدود، غير أن ما بقي فارق وأساسي: البنية التي تسمح بإعادة الإحياء متى توافرت الظروف. فالهزيمة كانت ميدانية لا فكرية، وتنظيمية لا اجتماعية.
اليوم، تظهر عمليات التنظيم في سوريا والعراق على شكل “نبضات” متقطعة: تفجير عبوات، استهداف حواجز نائية، اغتيال عناصر محليين، وهجمات عبر البادية. هذه العمليات لا تقيم جبهة بل تبقي الإرهاق قائماً وتختبر جاهزية الخصوم، وهي تعبير عن قدرة تكتيكية وليس مشروع توسع جديد. لكن الخطر الأعمق يتجلى في ملف المخيمات والسجون شمال شرقي سوريا، حيث يعيش عشرات الآلاف من النساء والأطفال والمعتقلين في بيئات هشّة تشكل خزّانًا للتجنيد وإعادة التنظيم. كل يوم تأخير في فتح مسارات قانونية واجتماعية لهذا الملف، يعني رفع الكلفة الأمنية لاحقاً.
على العموم لم تنتهِ “داعش” بانكماشها في سوريا والعراق. فالتنظيم أعاد توزيع ثقله الإقليمي عبر فروع قادرة على التمويل والتجنيد الذاتي، أبرزها “ولاية خراسان” في أفغانستان و”ولايات الساحل” في غرب إفريقيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو. ففي هذه المناطق، وجد التنظيم بيئات مضطربة، حدوداً رخوة، واقتصادات موازية قائمة على التهريب والتصحر وانهيار الدولة المركزية.
في أفغانستان، تحوّلت “ولاية خراسان” إلى مركز تخطيط لبعض الهجمات العابرة، مستغلة شبكة مقاتلين عابرين للحدود ومسارات تجنيد داخل بيئات مخيمات اللجوء والفقر الحضري. أما في الساحل الإفريقي، فتستغل خلايا التنظيم ضعف المؤسسات وتداخل الجماعات المسلحة وشبكات تهريب الذهب والسلاح والبشر، ما أتاح له مصادر تمويل مستقلة لا تحتاج إلى دعم مركزي.
هذا الامتداد يعني أن التهديد لم يعد محلياً، بل عابراً. عمليات تصفية “مخططي العمليات الخارجية” التي تعلن عنها واشنطن في سوريا من حين لآخر، تأتي لمنع وصل خلايا الداخل بشبكات التخطيط في خراسان والساحل. فالخطر هنا ليس الهجوم الفردي فحسب، بل أن تتكامل مسارات التدريب والتجنيد والتمويل على أكثر من مسرح.
في سوريا تقف القيادة أمام معادلة دقيقة: كل تقدّم في الحوكمة والخدمات والأمن المحلي يضيّق مساحة داعش، وكل تعثّر اقتصادي أو إداري يمنحه منفذاً للعودة. لكن في الاآونة الأخيرة برز مسار جديد يمنح دمشق ورقة سياسية وعسكرية معاً: الانضمام الرسمي إلى التحالف الدولي ضد داعش.
هذا المسار، وإن كان لا يزال في إطار التفاوض والحسابات الإقليمية والدبلوماسية، يحمل دلالات قوية، ولكن لقاء اليوم الرئيس الشرع مع ترامب ربما يحمل في طياته التوقيع للانضمام الى التحالف، ومن هذه الدلالات:
تحويل مكافحة الإرهاب إلى ملف شرعية دولية لا مجرد صراع داخلي.
الحصول على قنوات دعم استخباري وتدريب وتسليح ضمن أطر معترف بها.
إعادة صياغة موقع سوريا في شبكة الأمن الإقليمي نظير تأكيد دورها بوصفها خط دفاع أول ضد الانفلات الجهادي.
تقليص قدرة الأطراف الإقليمية على استخدام داعش كأداة ضغط في مسرح الأزمة السورية.
وتتوازى هذه المقاربة مع خطوات ميدانية داخلية: إعادة هيكلة المنظومة الأمنية، تنظيم التشكيلات المحلية ضمن عقيدة موحّدة، تعزيز التنسيق الحدودي، وفتح ملف السجون والمخيمات ضمن مسارات قانونية وإعادة دمج ممنهجة.
