الهديل

اللواء الدكتور الحميدان:القاعدة والنصرة وداعش ثلاثية صُنعت في الظل لتبرير السيطرة

 

بقلم الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان

ليست الحركات المتطرفة مجرد انعكاس لخلل ديني أو اجتماعي بل هي نتاج هندسة سياسية مركبة حيث تلتقي المصلحة بالقناعة والأيديولوجيا بالحسابات الجيوسياسية فداعش لم يكن فقط تنظيما خرج من رحم السلفية الجهادية بل كان تجسيدا لفكرة استخدمت الدين كأداة والمظلومية كوقود والتكنولوجيا كمنصة للهيمنة النفسية وفي قلب الصحراء العراقية السورية ولد تنظيم الدولة على أنقاض فكرة الدولة حيث انه لم ينشأ كحركة مقاومة بل كنظام مضاد حاول أن يحتكر المقدس ليعيد تعريف الإنسان من خلال منطق الفناء لا البقاء لإن جوهر المشروع الداعشي لم يكن في الجغرافيا التي سيطر عليها بل في البنية الإدراكية التي صنعها في عقول أتباعه وهي بنية ترى العالم في ثنائية قاتلة مؤمن وكافر نحن وهم النور والظلام ومن هنا بدأت الكارثة عندما يتحول الدين من منظومة قيم إلى معادلة صراع صفري .

ما ميز داعش لم يكن وحشيته فقط بل ذكاؤه البنيوي في ملء الفراغات التي تركها فشل الدول فالتنظيم أدرك أن الدولة الحديثة في بعض البيئات العربية تفتقر إلى الشرعية الرمزية دولة تخاطب الناس بلغة الإدارة لا الهوية وتقدم الأمن بلا معنى والمعنى بلا عدالة وفي تلك الفجوة تسلل داعش ليقدم سردية بديلة نحن الدولة التي لم تخن الدين ولم تخضع للغرب ولكن هذه السردية رغم هشاشتها الأخلاقية كانت قوية عاطفيا لأنها خاطبت الوجدان المكسور لا العقل المنطقي لقد فهم التنظيم أن الإنسان المحبط يبحث عن معنى قبل أن يبحث عن طعام وأن الهوية حين تجرح تصبح قابلة للاختطاف .

وعلى مستوى أعمق يمكن القول إن داعش لم يكن فقط صنيعة الفوضى بل كان أداة استثمار سياسي لبعض القوى التي رأت في التطرف وسيلة لإعادة ترتيب التوازنات في المنطقة فالوقائع تشير إلى أن تنظيم داعش لم يكبر حجمه من فراغ بل جاء نتيجة هندسة سياسية معقدة شاركت فيها أطراف متعددة أبرزها رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي الذي ساهم بسياساته الطائفية في خلق البيئة الحاضنة مدعوما من النظام الإيراني الذي وجد في التطرف السني فرصة لتبرير حضوره العسكري والسياسي في العراق وسوريا واما لنظام السوري السابق فقد لعبت أجهزته المخابراتية دورا خفيا في هذا البناء لأنها استخدمت فوضى التنظيمات لتأمين بقاء النظام عبر استراتيجية العدو الذي نتحكم به أفضل من الفوضى التي لا نعرفها وهناك بعض الدول العربيه والذي كان لها دورا في تقوية هذا التنظيم وتمكينه من خلال دعمه بطريقة مباشرة وغير مباشر لانه يتقاطع مع مصالحها وتستخدمه ضد من يعاديها بالإضافه إلى ان الدول الغربيه استطاعت ان تكيف هذا التنظيم لخدمة أجنداتها في المنطقه.

وفي هذا السياق ذاته قدمت تلك القوى نفسها كضحايا للإرهاب فيما كانت تستثمر في صناعته وإدارته ضمن معادلات إقليمية دقيقة .

ولم يكن هذا النموذج جديدا ففي الساحة السورية فقد سبقه تأسيس جبهة النصرة عام 2006 التي أوجدها النظام السوري في الأساس لتقاتل الجيش الأمريكي في العراق عبر تجنيد أبناء الطائفة السنية واتهامها بالارهاب ولغرض امتصاص الغضب الشعبي وتوجيهه نحو الخارج .

وفي الوقت نفسه اتهام المملكة العربية السعودية بأنها وراء التطرف في العراق حيث كانت تلك الخطوة جزءا من لعبة مزدوجة صناعة العدو واستخدامه وتوظيف الدين لتبرير السلطة وتوظيف الدم لتبييض السياسة لان تلك الانظمه كانت تنتج التطرف ثم تحاربه إعلاميا لانها في ظنها بان هذا يمنحها شرعية البقاء باسم محاربة الإرهاب .

أما تنظيم القاعدة فقد ولد من رحم الصراعات العالمية في ثمانينيات القرن العشرين عندما تشابكت خيوط الدعم الاستخباراتي والتمويل الأيديولوجي خلال الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتي وقد خرجت القاعدة من أفغانستان متأثرة بفكر التكفير والهجرة الذي رأى في المجتمع الجاهلي هدفا للمواجهة كما تغذت من رؤى بعض المستشرقين الذين درسوا البنية النفسية للعقيدة الإسلامية فاستُخدمت أفكارهم لاحقا لتفكيكها من الداخل عبر توظيف الخطاب الجهادي سياسيا حيث كانت القاعدة نتاجا مركبا بين العاطفة الدينية والتوظيف الاستخباراتي وبين الثورة على الاحتلال وصناعة أداة نفوذ في الحرب الباردة .

لقد استُخدم التطرف كمختبر جيوسياسي يسمح بإعادة رسم الخرائط من دون إعلان حرب مباشرة فهناك دول غذت الصراع سرا وأخرى صمتت طمعا وثالثة استثمرت في وجود العدو لتبرير عسكرة المنطقة وتوسيع نفوذها كانت الحرب على الإرهاب بالنسبة لبعض الأنظمة فرصة لإعادة تدوير شرعيتها وللبعض الآخر وسيلة لتبرير التدخل في شؤون الجيران وبهذا المعنى لم يكن داعش خصم الجميع بل كان في أحيان كثيرة وظيفة في خدمة أجندات دولية وإقليمية تبحث عن إعادة توزيع القوى لا عن إطفاء النيران .

في المقابل قدمت المملكة العربية السعودية نموذجا استثنائيا في فهم الظاهرة لم تتعامل معها كحدث أمني أو كحرب دينية بل كخلل في البنية المعرفية والسياسية للمجتمعات الحديثة فالمملكة بقراءتها الواقعية والهادئة أدركت أن التطرف ليس فقط فكرا منحرفا بل نتيجة فراغ حضاري وضعف في المناعة الثقافية لذلك جاءت مواجهتها متعددة الأبعاد من خلال إصلاح الخطاب الديني من الداخل لا عبر الصدام معه ودعم مؤسسات الحوار الوطني وتمكين الفضاء الثقافي من إنتاج خطاب بديل لا يقوم على الممانعة العاطفية بل على الثقة العقلانية .

ولأنها دولة تدرك أن الفكر لا يعالج بالقوة فقد أسست المملكة مراكز فكرية وبحثية تشتغل على تحليل المكونات الذهنية للتطرف وعلى تفكيك العلاقة بين النص والتأويل والسياسة ومن هنا جاء مركز اعتدال كأداة معرفية عالمية ليست لتفنيد خطاب الكراهية فقط بل لفهم بيئته النفسية والاجتماعية .

كما أن برامج مثل رؤية السعودية 2030 لا تمثل فقط مشروعا اقتصاديا بل مشروعا أيديولوجيا مغايرا أيضا فهي تضع التنمية بوصفها منظومة مناعة وطنية وتربط الأمن الفكري بالتمكين الاجتماعي معتبرة أن الاستثمار في الإنسان هو الطريق الأعمق لمحاربة التطرف .

حيث إن ما فعلته المملكة فعليا هو نقل الحرب على الإرهاب من الميدان إلى الوعي من المواجهة الأمنية إلى المواجهة الإدراكية فالإرهاب يولد حينما يفقد الفرد توازنه بين الانتماء والمعنى وحين يغيب المشروع الوطني القادر على احتواء التناقضات وتوجيهها نحو البناء لا الانفجار برزت فلسفة السعودية الجديدة في إدارة التحولات من خلال بناء نموذج يوازن بين الأصالة والتحديث وبين الهوية والانفتاح وبين الإيمان والإنسان .

أما على صعيد التنمية فإن التطرف هو الوجه الآخر لتأخرها فكل مشروع تنموي يقوم على بنية فكرية متماسكة وكل مشروع تطرف يعيش على أنقاض تلك البنية لان الإرهاب لا يقتل فقط الأبرياء بل يقتل الزمن نفسه ويسرق المستقبل من المجتمعات ويحول مواردها إلى رماد وحين تتعطل التنمية تتسع هوة التهميش ويعود التطرف في دورة جديدة من الانتقام الذاتي ولذلك فإن التنمية في جوهرها ليست ترفا اقتصاديا بل منظومة أمن ووعي واستقرار .

ولكن الخطر الحقيقي لا يكمن في بقاء داعش كتنظيم بل في تحوله إلى رمز ثقافي في اللاوعي الجمعي لان الفكرة ما زالت حية في فضاءات الإنترنت وفي بعض المدارس الفكرية التي تتغذى من الصدمة لا من العقل لذلك فإن المعركة المقبلة ليست ضد داعش كاسم بل ضد الداعشية كمنهج في التفكير .

ولعل الرهان الأهم في المرحلة القادمة هو بناء مشروع عربي متكامل في المواجهة يقوم على إنتاج سردية حضارية مضادة لا تكتفي بالدفاع عن الإسلام بل تعيد تعريفه للعصر وتقدمه كقوة إنسانية خلاقة قادرة على بناء لا هدم .

و لهذا يمكن القول إن المملكة العربية السعودية لا تخوض حربا على الإرهاب فحسب بل تخوض معركة إعادة تعريف الإسلام والعروبة في القرن الحادي والعشرين لانها أدركت أن المعركة ليست ضد جماعة بل ضد فكرة وأن الفكرة لا تهزم إلا بفكرة أعمق منها وإذا كان التطرف قد نجح في اختطاف الدين مؤقتا فإن مشروع الاعتدال السعودي يسعى إلى استعادته بوصفه مشروع تشريع وحياة لا مشروع موت فالتنمية هنا ليست فقط بناء ناطحات السحاب بل بناء الإنسان المتوازن الذي لا يمكن أن يكون حاضنة للكراهية وهكذا تتحول مواجهة التطرف من صراع على السلطة إلى صراع على المعنى صراع لا يكسب بالرصاص بل بالوعي .

@alatif1969

 

*المقالات والآراء التي تنشر تعبّر عن رأي كاتبها*

Exit mobile version