بقلم القاضي م جمال الحلو
في وطنٍ أنهكته الأزمات وتكاثرت عليه المحن، يقف المواطن اللبناني المسكين في مواجهةٍ جديدةٍ مع قدرٍ لا يرحم. فها هي فواتير كهرباء الدولة تعود، لا كرمزٍ لانبعاث مؤسساتها، بل ككابوسٍ جديدٍ يطرق أبواب البيوت المتعبة، حاملاً معه مبالغ خرافية بمئات الدولارات، رغم أن الكهرباء الرسمية لا تزور تلك البيوت إلا مرورًا عابرًا كنسمةٍ خجولةٍ في ليلٍ طويلٍ من العتمة.
يدفع اللبناني أضعاف ما يملك، اشتراكاتٍ للمولدات الخاصة التي باتت عصب الحياة اليومية، وها هو اليوم يُطالَب أيضًا بأن يسدّد فواتير كهرباء لا يراها، ولا يلمس من خدمتها سوى الاسم والشعار. فكيف يُعقل أن تكون فواتير النور أثقل من رواتب الموظفين والمستخدمين والعاملين؟ كيف تُطالَب الأسر البسيطة بما يعجز عنه أصحاب المهن الحرة والتجار، في حين لا أحد من المعنيين يسأل أو يُجيب؟
أيُعقل أن تُحمِّل الدولة أبناءها خطاياها، وأن تُغرقهم في ديونٍ لم يقترفوها؟ أليس من الجائر أن يُصار إلى استرداد الأربعين مليار دولار التي هدرت على مدى عقودٍ، من جيوب الفقراء والمساكين الذين لم يجنوا من كهرباء لبنان سوى ظلامٍ دامسٍ وحسرةٍ مزمنة؟
يا فخامة القاضي الأول، القائد العام، الذي قاد الجيش في أحلك الظروف الأمنية،
ويا دولة الرئيس، القاضي الدولي والحقوقي بامتياز، وأستاذ التاريخ والعلوم السياسية،
كيف لهذا المواطن الصامد أن يواجه هذا العبء المرعب وهو يلهث خلف لقمة عيشٍ تُثقلها الفواتير والضرائب والغلاء؟
كيف له أن يصمد أمام واقعٍ يفرض عليه أن يدفع ثمن النور مرتين: مرةً للمولد، ومرةً للدولة، وثالثةً من كرامته وعرقه وصبره؟
إنها ليست قضية فواتير وحسابات فحسب، بل قضية عدالةٍ اجتماعيةٍ مفقودة، ومسؤوليةٍ وطنيةٍ غائبة. فالمواطن لم يعد يحتمل، والبلد لم يعد يتّسع لمزيدٍ من اللامبالاة. فلتتحرك الضمائر، ولينتفض العقل الرسمي قبل أن تنطفئ آخر شمعةٍ في هذا الوطن الذي أطفأته السياسات قبل أن تُطفئه العتمة.
إنّ مأساة المواطن اللبناني لم تعد مجرّد حكاية ضيق معيشةٍ أو شكوى عابرة من غلاءٍ فاحش، بل تحوّلت إلى معاناةٍ وجوديةٍ يعيشها الإنسان في كل لحظةٍ من يومه. ففي وطنٍ تُحجز فيه أموال الناس في المصارف بلا أفقٍ واضح، وتُثقل كواهلهم الفواتير المتراكمة من كهرباءٍ وماءٍ وطعامٍ ومدارسٍ واستشفاءٍ وأدويةٍ وانتقالٍ وملبسٍ وبنزينٍ… يغدو البقاء نفسه تحدّيًا يوميًا.
لقد صار المواطن يُحاسَب على الهواء الذي يتنفسه، فيما يعيش في وطنٍ تُسرق فيه أعمار الناس وهم ينتظرون بارقة عدلٍ أو بصيص رحمة.
وفي ظلّ هذا العالم الذي يشكو الفاقة والعوز، يقف اللبناني مصلوبًا بين فواتير لا تنتهي، وأملٍ يتناقص، وضمائر ما زالت غافيةً عن وجعه.
فيا من في أيديكم القرار، أفيقوا قبل أن ينكسر آخر ما تبقّى من هذا الشعب الكريم.
فالوطن لا يُبنى بالفواتير، بل بالعدل والرحمة والكرامة، ولا تُضاء بيوت الناس إلا حين تُضاء ضمائر المسؤولين.

