خاص الهديل…
كهرمان مصطفى…
حملت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى البيت الأبيض من الرمزيات بقدر ما حملت من الرسائل. حتى الجدل الذي أثاره دخوله من باب جانبي لم ينجح في إخفاء حقيقة أن الزيارة ليست بروتوكولية خالصة، بل زيارة انتقالية لرئيس يقود مرحلة جديدة لم تتبلور هويتها بعد، لكنها بالتأكيد تخرج سوريا من عزلتها الطويلة.
وبينما انشغل البعض بتفاصيل الأبواب والمداخل، كانت الشاشة التي تسرب عبرها فيديو للرئيس الشرع وهو يلعب كرة السلة مع قائد القيادة المركزية الوسطى الجنرال ديفيد كوبر تكشف الوجه الحقيقي لهذه الزيارة: علاقة تتقدم بسرعة غير متوقعة، وتفاهمات أمنية تتجاوز المجاملات الدبلوماسية. بدا واضحاً أن واشنطن لم تعد تتعامل مع سوريا بوصفها رقماً هامشياً في حربها الطويلة على الإرهاب، بل بوصفها جزءاً من بنيتها الأمنية في الشرق الأوسط، وربما شريكاً مفضلاً في مرحلة جديدة يعاد فيها رسم خرائط المنطقة.
وعليه لم يكن الأمن ملفاً جانبياً في النقاشات، بل كان محور اللحظة كلها. فالولايات المتحدة لا تطلب من الشرع اليوم أي التزامات سياسية تجاه إسرائيل، ولا تدفعه نحو تسوية كبرى، بقدر ما تسعى إلى ترتيبات أمنية تضمن استقرار الحدود وتكبح نفوذ المجموعات المتطرفة، سواء تلك التي تنتمي إلى الإرهاب السني أو تلك المدعومة من إيران. فالأمر بالنسبة لواشنطن هو إعادة بناء التوازنات قبل أي عملية سياسية، ومعنى ذلك أن دمشق عادت لتصبح جزءاً من منظومة القرار الأميركي، لا مجرد متلقية لتوجيهاته.
هذا التحول لم يكن من الممكن أن يمرّ من دون ارتدادات مباشرة على لبنان، الذي يجد نفسه في مرحلة أكثر حساسية من أي وقت مضى. فالتفاهمات الأمنية بين واشنطن ودمشق تشمل إنشاء منطقة خالية من السلاح الثقيل جنوب سوريا، وصولاً إلى قطنا، ما يجعل الحدود اللبنانية الجنوبية الغربية أكثر هشاشة، ويمنح إسرائيل منفذاً عسكرياً غير مسبوق في حال أرادت فتح جبهة من الجانب السوري. وبالنسبة للبنان، هذا ليس تفصيلاً؛ إنه تغيير جذري في طبيعة المخاطر، وخصوصاً أن خطوط الجغرافيا بين قطنا ونهر الأولي لا تترك مجالاً كبيراً للصدف.
أما المجموعات المدعومة من إيران، وعلى رأسها حزب الله، فهي تدخل في مرحلة جديدة مع الحكم السوري الحالي. فالتوجه المعلن بمحاربتها لن يبقى بلا انعكاسات، وقد تظهر بوادر اشتباكات على الحدود الشمالية الشرقية للبنان، وإن كان ذلك مرهوناً بقدرة السعودية على ضبط هذا الملف الحدودي وإبقاء التوتر تحت السيطرة. ومع ذلك، فإن اللعبة تبدو أوسع من حدود بلدين، وأعمق من مناوشات ظرفية.
على الجانب السوري الداخلي، تنفتح صفحة لا تقل تعقيداً. الشرع يواجه تحدياً مزدوجاً: من جهة، جماعات راديكالية كانت تتمتع بـ”غضّ نظر” نسبي في مرحلة ما بعد سقوط الأسد، ولن تتقبل بسهولة تقارب دمشق من واشنطن أو انفتاحها على تفاهمات أمنية مع إسرائيل. ومن جهة ثانية، مجموعات جهادية ورثت إرث “داعش” الفكري والتنظيمي، وكان الشرع يقاتلها منذ عام 2013، وتعرف جيداً أنها أصبحت في قلب الأهداف الدولية.
لكن المفارقة أن الحرب على “داعش” تفتح أبواباً كانت مغلقة لسنوات. فهي تسمح بإيجاد صيغة لدمج “قسد” داخل المؤسسة العسكرية السورية دون إذابتها بالكامل، وتعيد “جيش سوريا الحرة” المموّل أميركياً إلى موقع متقدم في البادية، بينما تصبح مجموعات “هيئة تحرير الشام” السابقة عماد قوات وزارة الدفاع السورية في إدلب. هكذا تنشأ شبكة عسكرية جديدة فوق أرض ممزقة، لكنها ربما تكون أول خيط في محاولة بناء جيش وطني متعدد المكونات.
