خاص الهديل….

كهرمان مصطفى….
زار اليوم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأراضي السورية المحتلّة، في جولة لم يكن توقيتها ولا مرافقيه تفصيلاً عابراً. حضور وزيري الأمن والخارجية، إلى جانب رئيسي الأركان والشاباك، وضع الزيارة في خانة الرسائل الثقيلة: تل أبيب تشعر أنّشيئاً كبيراً يتغير في دمشق، وأنّ الوقت يداهمها.
التحركات الإسرائيلية جاءت فيما تتعثر، بحسب الإعلام العبري، المفاوضات الأمنية مع سوريا. لكن ما هو أهم من التعثر ذاته، هو طبيعة المناخ السياسي الذي يحيط به: واشنطن منفتحة بقوة على الرئيس السوري أحمد الشرع، والدعم التركي – الخليجي يأخذ منحى تصاعدياً، بينما تحاول إسرائيل الحد من قدرة دمشق على فرض وقائع جديدة.
ولعل النفي السريع الذي أصدرته هيئة البث العبرية بشأن الانفجار في “المزة 86″، يُظهر حرصاً غير مسبوق على تجنب أي انطباع بالتصعيد. فتل أبيب لا تريد إزعاج واشنطن، ولا ترغب في فتح مواجهة مباشرة فيما الإدارة الأميركية تتحرك نحو إعطاء شرعية أكبر للقيادة السورية.
هذه الحساسية الإسرائيلية ليست بلا أسباب. فخلال الشهرين الماضيين، حققت دمشق اختراقات سياسية نوعية، تُوّجت بلقاء الرئيس الشرع بترامب في البيت الأبيض. وهو حدث قلب المعادلة، ودفع إسرائيل إلى توسيع خطابها التحريضي – وليس عملياتها العسكرية – باتجاه جنوب سوريا فقط، ضمن الحدود “المسموح بها” أميركياً.
من هنا يمكن فهم التصعيد الكلامي الذي أطلقه أفيغدور ليبرمان، حين حاول التشكيك بشرعية السلطة السورية، واتهامها بأنها واجهة لـ”القاعدة”.
لكن نتنياهو ذهب أبعد. فقد قدّم علناً “شروط” بناء الثقة مع سوريا: القضاء على الجهاديين تماماً، التعاون لإقامة منطقة منزوعة السلاح في الجنوب الغربي، وضمان حماية الدروز. وهذه الشروط ليست سوى لبّ المفاوضات المتعثرة، ومحاولة إسرائيلية للحصول على ضمانات ترفض دمشق تقديمها.
فالرئيس السوري أحمد الشرع كان واضحاً في لاءاته الثلاث خلال مقابلته الأخيرة مع “واشنطن بوست”: لا منطقة عازلة في الجنوب، لا انتقاص من السيادة، ولا فتح خاصرة رخوة أمنياً يمكن استغلالها ضد سوريا… أو ضد إسرائيل نفسها.
المنطقة التي تطالب بها تل أبيب ليست مجرد شريط حدودي. إنها تمتد من السويداء ودرعا والقنيطرة وصولاً إلى جنوب دمشق، أي أنها عملياً تُسقط مشروعاً تركياً – خليجياً واسعاً قائم على إعادة توصيل طريق الـ“M5” كممر اقتصادي بين أوروبا وتركيا والخليج. وهذا المشروع بات يحظى بدعم أميركي مباشر، كما أشار تحليل “كارنيغي”.
أي أن إسرائيل تجد نفسها أمام مشهد جديد:
• قيادة سورية أكثر قبولاً دولياً
• تحالف تركي – خليجي يعتبر استقرار سوريا فرصة اقتصاد إقليمية
• واشنطن تميل إلى الاستثمار السياسي في الشرع
• تراجع هوامش المناورة الإسرائيلية
ولذلك تحديداً، جاءت زيارة نتنياهو. جولة اعتراض، لا استعراض قوة. محاولة لكبح اندفاعة مراكز القرار في واشنطن، ورسالة إلى دمشق يمكن تفسيرها بأن إسرائيل ما زالت قادرة على تعطيل أي اتفاق إن لم تحصل على “المنطقة المنزوعة السلاح” بالشروط التي تريدها.
لكن الحقيقة أنّ قدرة تل أبيب على المناورة تضيق. فدمشق نجحت في امتصاص التوتر الداخلي بعد أحداث السويداء، والتحقت بالتحالف الدولي ضد الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، وعزّزت التعاون الأمني على الأرض. وكل ذلك جعل الموقف الأميركي أكثر اقتراباً من المشروع التركي – الخليجي، وأبعد عن المشروع الإسرائيلي الذي يراهن على “سوريا ضعيفة ومقسّمة”.
هدف الزيارة إذاً؟ أن تقول إسرائيل إنها لن تقف متفرجة أمام تحول سوريا إلى لاعب إقليمي معترف به. وأن أي تسوية أمنية في الجنوب يجب أن تمر عبر شروطها. لكنها في العمق، زيارة قلق… أكثر منها زيارة قوة.
فالمنطقة تتغيّر بسرعة، وقد تجد إسرائيل نفسها قريباً أمام ضغوط أميركية جدّية للقبول باتفاق أمني جديد، شبيه باتفاق فك الاشتباك عام 1974، لكن من موقع تفاوضي أضعف بكثير.