الهديل

خاص الهديل: بهتشلي وإمرالي… هل تدخل تركيا مرحلة ما بعد الكمالية؟

خاص الهديل..

ق. م….

الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر2025، خرج دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية التركية، ليطلب من نواب حزبه الإذن بالذهاب إلى إمرالي ولقاء زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان المسجون في سجن جزيرة إمرالي. ورغم أن الحركة بسيطة في ظاهرها، لكنها حملت في مضمونها معنى أعمق: إشارة إلى أن تركيا قد تكون على مفترق طرق جديد، على بعد خطوة من إعادة قراءة نفسها بعد قرن من محاولات التوحيد والهوية الكمالية – نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية -. لم يكن المشهد مجرد تصريح عابر؛ كان لحظة تستدعي التوقف والتأمل في التاريخ الطويل الذي جعل الدولة تواجه الأكراد بعقلية واحدة، في حين امتد الصراع ليشمل السياسات والأمن والهوية نفسها.

هذا المشهد أعاد إلى الذاكرة ما حدث في التسعينيات، حين اعترف سليمان ديميريل – رئيس وزراء تركيا عدة مرات بين السبعينيات والتسعينيات- ودوغان غوريش – رئيس الأركان العامة للجيش التركي من 1990 إلى 1994- بـ”الواقع الكردي”، لحظة غيرت بعضاً من ثوابت الدولة، لكنها لم تُنهي الصراع. فالذهنية الكمالية التي أرادت تحويل شعوب متعددة إلى أمة تركية واحدة كانت أقوى من كل محاولات التهدئة، ومع مرور الوقت، أفل مشروعها تحت ضغط المقاومة الكردية والظروف الإقليمية المتغيرة.

والواقع أن جذور المشكلة تعود إلى ما قبل الجمهورية، حين حاول السلطان عبد الحميد مواجهة تفكك الدولة العثمانية عبر جمع العرب والأكراد في مشروع الجامعة الإسلامية، لكن انقلاب حزب الاتحاد والترقي قلب المعادلة، وبدأت سياسة جديدة تقوم على التتريك القسري وتهجير الأقليات، بينما حاولت الجمهورية إنشاء “أمة تركية” خالصة، واضعة كل مختلف تحت ضغط الانصهار القسري. مصطفى كمال رفع المشروع إلى ذروته، محاولاً دمج الأكراد بالقوة، لكن مقاومتهم جعلت الصراع طويل الأمد، مستمراً في تكوين أجهزة الدولة الأمنية والبيروقراطية، وخلق شبكة معقدة من النفوذ والفساد.

واليوم، تغيرت المعادلة. الأكراد في العراق وسوريا شكلوا كيانات سياسية وعسكرية لها وزن، وأصبح الصراع التركي معهم لا يقتصر على الداخل، بل يمتد إلى سياق إقليمي متشابك. داخل الدولة، بدأ بعض من يتخذون القرار يدركون أن النهج القديم لم يعد صالحاً، وأن الاستمرار بالإنكار والإقصاء قد يضعف الدولة أكثر مما يقويها. ظهرت مخاوف من حرب إقليمية كبيرة قد تعيد رسم الخرائط، وتخلق أزمات جديدة، لتظهر هنا خطوة بهتشلي غير المتوقعة: مصافحة نواب حزب DEM، ثم التحرك نحو إمرالي.

هذا التحرك أعاد زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان إلى واجهة الأحداث. لم يعد مجرد معتقل بعيد، بل أصبح شريكاً محتملاً في مرحلة سياسية جديدة. وظهر مفهوم “الاندماج” كأداة لتقريب الأكراد من الدولة دون قسر مباشر، بينما يصر أوجلان على تسميته “الاندماج الديمقراطي” ليُميز بينه وبين الاستيعاب القسري الذي شهده الأكراد عبر قرن من الزمن. ورغم كلمة “ديمقراطي”، يظل السؤال: هل سيستطيع هذا المسار حماية الهوية الكردية دون أن يتحول في النهاية إلى استيعاب طوعي؟

الرهان الآن على صياغة ضمانات واضحة، على اعتبار أن الاعتراف بأن تركيا وطن مشترك للأتراك والأكراد، واعتماد اللغة الكردية إلى جانب التركية، والتعليم باللغة الأم في المناطق الكردية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة ديمقراطياً، كلها عناصر أساسية لتفادي تحول الاندماج إلى استيعاب يهدد الهوية الكردية. من دون ذلك، قد يبقى كل شيء محصوراً بين الدولة وأوجلان، بلا دور لطرف ثالث يوازن العملية.

ما يتشكل في الأفق هو محاولة نقل تركيا من مشروع الأمة الكمالية إلى نموذج جديد يقوم على شراكة تركية–كردية، لكن هذا الطريق محفوف بالتحديات: هل المجتمع التركي مستعد لشراكة حقيقية؟ وهل الأكراد سيجدون مكانهم بصدق في هذا النموذج؟؟.

Exit mobile version