بقلم اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
يشهد العراق مرحلة سياسية حساسة بعد الانتخابات الأخيرة التي لم تمنح أي قوة أغلبية مريحة وهذا ما أعاد إنتاج مشهد سياسي يقوم على التفاهمات القلقة بين القوى الشيعية والسنية والكردية ورغم ارتفاع نسب المشاركة فإن البنية الأساسية للنظام لم تتغير بل استمرت الأحزاب التقليدية في السيطرة بينما فقدت قوى تشرين الكثير من زخمها بسبب الانقسامات وعدم القدرة على بناء تمثيل منظم قادر على منافسة القوى الراسخة.
ويتزامن هذا الواقع الداخلي مع تنافس إقليمي واضح حيث تستند إيران إلى شبكة نفوذ سياسي وعسكري واقتصادي تجعل حضورها في العراق عميقًا وممتدًا فيما تعتمد الدول العربية وخاصة الخليجية على أدوات مختلفة من بينها الاستثمار والمشاريع الاقتصادية والربط الكهربائي من أجل إعادة العراق إلى محيطه العربي إذ تسعى هذه الدول إلى موازنة النفوذ الإيراني لا عبر المواجهة المباشرة بل من خلال تقديم بدائل اقتصادية وسياسية قادرة على جذب بغداد.
ورغم أن الخطاب الإعلامي والشعبي يختزل هذا التنافس في ثنائية عوربة مقابل فرسنة إلا أن هذه الثنائية تبقى توصيفًا مبسطًا إذ إن العراق بطبيعته بلد متعدد الهويات ولا يمكن اختزاله في هوية واحدة أو محور واحد كما أن القوى العربيه لا تستهدف تغيير الهوية العراقية بل حماية مصالحه الاستراتيجية لان الدول العربيه تدرك إن تحويل الهوية إلى ساحة صراع يحمل مخاطر كبيرة على السلم الأهلي العراقي ويزيد الاستقطاب في مجتمع يعاني أصلًا من إرث ثقيل من الانقسامات.
ولهذا تواجه القوى الشيعية وضعًا معقدًا إذ إنها تدرك أهمية العلاقة مع إيران من حيث الدعم السياسي والاقتصادي وفي الوقت نفسه تعرف أن الانفتاح على العالم العربي ضروري لتحقيق توازن يمنح الدولة العراقية قدرة أكبر على المناورة وهذا ما يخلق اختلافات داخلية بين القوى الشيعية نفسها فبعضها يميل نحو الارتباط العميق بطهران بينما يسعى آخرون إلى مسار أكثر استقلالًا يسمح ببناء علاقات عربية ودولية أوسع.
وأما القوى السنية والكردية فتتحرك انطلاقًا من براغماتية واضحة فهي ترى في المحيط العربي فرصة لتعزيز حضورها لكنها مضطرة أيضًا إلى التعامل مع ثقل النفوذ الإيراني على القرار السياسي في بغداد وهذا ما يجعل أهدافها الأساسية تتمحور حول ضمان مصالحها السياسية والإدارية والاقتصادية أكثر مما تتمحور حول تبني اصطفافات حادة مع هذا المحور أو ذاك.
وفي مقابل هذا كله يظهر المزاج الشعبي الذي تشكل بعد احتجاجات تشرين إذ يبرز اتجاه يريد عراقًا مستقلًا لا يخضع لأي محور خارجي ويطالب بدولة مواطنة قوية تضبط السلاح وتحد من الفساد وتعيد توزيع الثروة بعدالة ورغم أن هذا المزاج لا يمتلك تنظيمًا سياسيًا صلبًا إلا أنه يمثل ضغطًا اجتماعيًا حاضرًا يمكن أن يعيد تشكيل المشهد إذا فشلت الحكومات المتعاقبة في تحقيق وعودها.
وبناء على هذا الواقع يبدو ان العراق أمام ثلاثة مسارات رئيسية في المرحلة المقبلة
• المسار الأول تعميق الارتباط بمحور واحد وهو خيار يمنح استقرارًا مؤقتًا لكنه يجعل البلاد عرضة لصراعات خارجية وتوترات داخلية
• المسار الثاني الانزياح نحو المحيط العربي وهو مسار يوفر فرصًا اقتصادية كبيرة لكنه قد يواجه اعتراضًا قويًا من القوى المرتبطة بإيران
• المسار الثالث وهو الأكثر واقعية يقوم على بناء توازن دقيق بين المحورين مع التركيز على بناء الدولة وتقوية مؤسساتها وخلق مساحة سيادية أوسع للعراق كي يتصرف بوصفه دولة لا ساحة صراع.
وفي النهاية فإن مستقبل العراق لن تحدده القوى الإقليمية وحدها بل قدرة العراقيين على فرض معادلة سياسية جديدة تجعل العراق لنفسه أولًا ثم شريكًا متوازنًا مع محيطه بدل أن يكون امتدادًا لأي محور خارجي.
@alatif1969

