الهديل

خاص الهديل: بيروت عطشى… والمياه حقّ للمواطن لا لِمافيات الصهاريج

خاص الهديل…

في مدينة كانت تُلقَّب يوماً بـ“أمّ الشرائع”، أصبحت المياه اليوم امتيازاً لا يحصل عليه المواطن إلا بثمن مرتفع وشروط تُفرض عليه قسراً. بيروت، العاصمة التي يفترض أن تكون النموذج في الخدمات، بات سكانها يعيشون معاناة يومية مع شحّ المياه، وكأن الماء أصبح رفاهية لا حقّاً أساسياً.

هذه الأزمة ليست وليدة اليوم، لكنها تفاقمت إلى درجة باتت تُسائل كل الجهات المعنية: أين الدولة؟ من يتحكّم بالمياه؟ ومن يحمي مافيات الصهاريج التي تحوّلت إلى سلطة موازية تتحكم برقاب الناس؟

الواقع أن غياب انتظام التغذية من مؤسسة المياه فتح باباً واسعاً لظهور منظومة كاملة تعتمد على الصهاريج الخاصة، وهي منظومة لا تخضع لرقابة جدية، ولا لشفافية في مصادر المياه التي تنقلها، ولا في الأسعار التي تفرضها على المواطنين. فكيف لصهاريج أن تملأ خزاناتها يومياً، بينما الخزانات المنزلية فارغة؟ ومن أين تأتي تلك المياه؟ وهل هي مُراقبة صحياً؟ أم أن حياة المواطن باتت أيضاً رهينة سوق سوداء جديدة؟

الأخطر من ذلك أن هذه الصهاريج تتحرك بأمان وثقة، وكأنها جزء من شبكة محصّنة سياسياً وإدارياً. فالسؤال الذي يطرحه كل بيروتي هو: من يحمي هذه المافيات؟ ومن يوفّر لها خطوط التحرك، والتسهيلات، والغطاء الذي يجعلها أقوى من المؤسسات الرسمية؟ ولماذا تُترك بيروت عطشى بينما مياه الدولة تُباع في السوق السوداء؟

المواطن اللبناني يدفع ضرائب، فاتورة مياه رسمية، وفاتورة كهرباء لتشغيل مضخاته، ثم يُجبر في النهاية على دفع مبالغ إضافية لصهاريج خاصة تُحمّل عليه كلفة شحّ لا ذنب له فيه. هذه ليست خدمة، وليست تجارة، بل استغلال كامل لحق أساسي: حق الإنسان بالمياه. فالماء ليس ملكاً لمافيات الصهاريج، ولا سلعة تُباع لمن يدفع أكثر، بل ملك عام لكل مواطن.

إن استمرار هذا الوضع يشير إلى خلل عميق في إدارة قطاع المياه، وغياب أي خطة واضحة لوقف الهدر، إصلاح الشبكات، ضبط الآبار غير الشرعية، ومحاسبة من يسيطر على موارد المياه كأنها ملك خاص. والأخطر أن الدولة تبدو غائبة، أو مغيبة، عن تنظيم هذا القطاع، تاركة المواطن يواجه جشع سوق بلا رادع.

إن أزمة المياه في بيروت لم تعد مجرد انقطاع متكرر، بل أصبحت عنواناً لفوضى منظمة: فوضى في الإدارة، فوضى في التوزيع، وفوضى في السوق السوداء. والمسؤولية هنا ليست فقط تقنية، بل سياسية أيضاً، لأن حماية هذا القطاع من الفساد تتطلب قراراً شجاعاً يضع مصلحة المواطن فوق مصالح المنتفعين.

إن الوقت قد حان لمصارحة واضحة: بيروت لا تعاني من قلّة مياه بقدر ما تعاني من قلّة إدارة، ومن انتشار منظومة تستفيد من الشحّ وتبني نفوذها على حساب معاناة الناس. ولأن المياه حق وليست امتيازاً، فإن تصحيح هذا المسار يبدأ من وضع حدّ لسطوة الصهاريج، وفتح ملف مصادرها، ومحاسبة من يحميها، وإعادة المياه إلى أصحابها الحقيقيين… إلى كل بيت لبناني.

 

Exit mobile version