المفارقة المريرة في المشهد الراهن أن العالم يحتفي بخطة السلام التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب بين إسرائيل وحماس بينما تستمر الدماء الفلسطينية في النزيف على الأرض بوتيرة تذكر بأن الورق شيء والعقيدة الأمنية الإسرائيلية شيء آخر . لان وقف إطلاق النار في صورته البروتوكولية لم يتحول إلى تحول بنيوي في سلوك القوة القائمة بالاحتلال بل بدا أقرب إلى إعادة تموضع عسكري وسياسي يسمح لإسرائيل بتعديل أدوات العنف من القصف الشامل إلى التحكم الخانق في شروط الحياة والموت داخل غزة والضفة على حد سواء.
ولفهم دموية إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني حتى في ظل خطة معلنة لإنهاء الحرب لا بد من العودة إلى منطق الأمن كما تراه المؤسسة الإسرائيلية. وهو أمن يعرف بوصفه تفوقًا دائمًا عسكريًا وتكنولوجيًا وسياسيًا لا يقبل التكافؤ ولا التوازن. وهذا المنطق يعتبر ان أي قدرة فلسطينية على المقاومة مسلحة كانت أو حتى سياسية منظمة تهديدًا وجوديًا يجب سحقه لا احتواؤه أو التفاوض معه. لذلك حين جاءت خطة ترامب بوعود وقف العمليات العسكرية وتبادل الأسرى وترتيبات أمنية جديدة لم تقرأ في تل أبيب بوصفها فرصة لإعادة صياغة علاقة أقل عنفًا مع الفلسطينيين بل كإطار دولي يستثمر لتثبيت نتائج الحرب على الأرض وترسيخ واقع جديد في غزة يضعف حماس من جهة ويكسر إرادة المجتمع الفلسطيني من جهة أخرى.
وفي المقابل لا يمكن إغفال دور حماس في إنتاج هذا المشهد المأساوي. وهي الحركة التي بنت شرعيتها على المقاومة المسلحة والتي وجدت نفسها منذ سنوات عالقة بين خطاب التحرير الكامل وأثمان إدارة قطاع محاصر ومفرغ من مقومات الحياة. لان خيارها الاستراتيجي هو الاستمرار في العمل العسكري من داخل منطقة مكتظة بالمدنيين مع علمها المسبق بالعقيدة الإسرائيلية القائمة على العقاب الجماعي والضرب الكثيف وجعل السكان في الواجهة المباشرة لنيران لا ترحم. وحين تتخذ حماس قرارات كبرى بهجمات أو تصعيدات فإنها تفعل ذلك ضمن حسابات سياسية وعسكرية معقدة بسبب مصالح الحركة الضيقه وحلفاؤها لكنها في كثير من الأحيان تسقط من معادلاتها حجم الكارثة المتوقعة على المدنيين الذين لا يملكون قرار الحرب ولا قرار التسوية.
ومع ذلك يبقى الفرق جوهريًا بين مسؤولية حركة مسلحة مهما اتهمت وأخطأت ومسؤولية دولة تملك جيشًا نظاميًا وترسانة هائلة وتتمتع باعتراف دولي كامل وتقدم في الغرب بوصفها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. وإسرائيل ليست فاعلًا هامشيًا بل طرف يملك كل أدوات القوة تقريبًا ويستند إلى دعم سياسي وعسكري واقتصادي من قوى كبرى. ولهذا حين تقرر هذه الدولة أن تتعامل مع مجتمع كامل باعتباره بيئة حاضنة للإرهاب وتجيز لنفسها قصف الأحياء والمخيمات والبنى التحتية بلا تمييز حقيقي فإننا نكون أمام سياسة ممنهجة تتجاوز رد الفعل على حماس لتصل إلى مستوى إعادة تشكيل الجغرافيا والديمغرافيا بالعنف.
وخطة ترامب في جوهرها حاولت أن تجمع بين مطلبين متناقضين. إرضاء هاجس الأمن الإسرائيلي إلى أقصى حد وفي الوقت نفسه تقديم إطار يسوق عالميًا على أنه فرصة تاريخية لإنهاء الحرب وفتح أفق سياسي جديد للفلسطينيين. والبنود المتعلقة بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وترتيبات المراقبة الدولية تبدو على الورق متوازنة لكن في الواقع تدار في ظل خلل فاضح في موازين القوة. لان إسرائيل تدخل أي مفاوضات من موقع من يستطيع دائمًا العودة إلى السلاح متى شاء بينما حماس محاصرة بين ضغوط إسرائيلية وأميركية وإقليمية وبين جمهور فلسطيني منهك ومنكوب ينتظر أي كوة أمل ولو بثمن تنازلات قاسية.
ولهذا فان المشكلة تكمن في أن الطرفين إسرائيل وحماس تعاملا مع الخطة بمنطق تكتيكي أكثر منه استراتيجي. فإسرائيل نظرت إليها كمرحلة تجميد ضرورية لإعادة لملمة الجيش وترتيب المسرح السياسي الداخلي وتبييض صورتها أمام الرأي العام العالمي من دون تغيير حقيقي في رؤيتها لحقوق الفلسطينيين أو لوجودهم السياسي المستقل. وحديثها عن نزع سلاح غزة لم يترافق مع أي حديث جدي عن إنهاء الاحتلال أو رفع الحصار أو الاعتراف بحق تقرير المصير. وفي المقابل تعاطت حماس مع الخطة كفرصة لتثبيت نفسها طرفًا لا يمكن تجاوزه وممرًا إلى إعادة ترتيب أوراقها الداخلية من دون أن تقدم مراجعة عميقة لاستراتيجيتها العسكرية والسياسية التي أدخلت غزة في دوامة حصار – حرب – هدنة – وحصار من جديد.
وفي عمق المأساة يجد المدني الفلسطيني نفسه بين فكين. فك آلة عسكرية إسرائيلية تتعامل معه كرقم قابل للإزالة في حسابات الردع وفك قيادة فلسطينية منقسمة بين سلطة عاجزة ومكبلة في الضفة وحماس محاصرة ومهمومة ببقائها السياسي والعسكري في غزة. ومع أن حماس تتحمل قدرًا واضحًا من المسؤولية عن خياراتها التي أعطت إسرائيل الذريعة لتصعيد غير مسبوق إلا أن هذا لا يسقط عن إسرائيل مسؤوليتها الأصلية بوصفها قوة احتلال تمارس عنفًا منظمًا يمتد لعقود ويتجاوز بكثير نطاق الرد على هجمات ليصل إلى هندسة واقع كامل من السيطرة والإخضاع.
والخطة الأميركية في صورتها الحالية تبدو محاولة لاحتواء نتائج الحرب أكثر مما هي مشروع جاد لمعالجة جذورها. فهي تتحدث عن وقف القتال وترتيبات أمنية وعمليات إعادة إعمار في إطار مناطق آمنة لكنها تتجنب الإجابة بوضوح عن أسئلة جوهرية. ما هو شكل السيادة الفلسطينية في اليوم التالي؟ ولهذا من يضمن ألا تتحول المناطق الآمنة إلى كانتونات معزولة محروسة إسرائيليًا؟ وما هو مستقبل الضفة الغربية والاستيطان؟ وكيف يمكن التوفيق بين مطلب نزع سلاح الفصائل وبين غياب أي ضمانات حقيقية لحقوق الشعب الواقع تحت الاحتلال؟ فهذه الثغرات تجعل استمرار الدموية الإسرائيلية ممكنًا حتى وإن تغيرت أشكالها من القصف المفتوح إلى الخنق الاقتصادي والإداري والأمني.
وفي هذا السياق يصبح الحديث عن إرادة المجتمع الدولي جزءًا من المشهد أكثر منه عاملًا حاسمًا. لان الدول الكبرى التي تبارك خطة ترامب وتشيد بما تسميه شجاعة الطرفين في القبول بالتسوية تعرف جيدًا أن إسرائيل لم تحاسب مرة واحدة على جرائم واضحة موثقة في غزة والضفة وأن لغة حق الدفاع عن النفس استخدمت مرارًا لتبرير مستوى من العنف يفوق بكثير حدود الضرورة العسكرية. وهذا الإطلاق في الحصانة يغري الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على المضي أبعد في استخدام القوة وهي مطمئنة إلى أن أي خطة سلام جديدة ستأتي عاجلًا أو آجلًا لتساعدها على إدارة النتائج لا لمساءلتها عن الأسباب.
ومع ذلك لا يمكن لحماس أن تتصرف كما لو أن كل شيء سببه إسرائيل فقط. لان الحركة إذا أرادت أن تكون جزءًا من حل تاريخي لا جولة أخرى من الدم مطالبة بمراجعة عميقة لخياراتها. ومدى نجاعة العمل العسكري في ظل موازين قوة مختلة بهذا الشكل وكلفة إدارة قطاع محاصر وفق منطق أمني وعقائدي مغلق وكيفية بناء شراكة وطنية فلسطينية تحد من الانقسام بدل أن تستثمر فيه. لان إصرار حماس على الاحتفاظ بكل مفاصل القرار في غزة مع افتقارها لأدوات الحكم الرشيد في ظروف كارثية جعلها هدفًا سهلاً للوم الشعبي والإقليمي وأتاح لإسرائيل أن تقدم الحرب للعالم على أنها معركة ضد تنظيم متطرف أكثر مما هي فصل جديد في قصة شعب يبحث عن الحرية.
ولهذا فان المشهد أكثر تعقيدًا من سردية أحادية تجرم طرفًا وتبرئ الآخر لكنه في جوهره يكشف حقيقة واحدة قاسية. وهو انه طالما بقيت إسرائيل متمسكة بعقيدة تفوق دموي لا يعترف بحقوق شعب كامل وطالما بقيت حماس محصورة في منطق مقاومة عسكرية لا تملك شروط نصرها ولا آليات حماية جمهورها فإن أي خطة مهما حملت من بنود وتفاصيل وضمانات ستبقى فوق سطح مأساة أعمق. لان الدم الفلسطيني سيظل مهددًا بالعودة إلى الواجهة في كل أزمة ما لم تفتح نافذة حقيقية لتسوية سياسية تعالج جذور صراع الاحتلال والحصار والتمييز البنيوي والانقسام الداخلي الفلسطيني.
ولهذا فان هذه اللحظة لاتحتاج فقط خطة من ترامب أو غيره بل شجاعة حقيقية لقول ما لا تريد الأطراف سماعه. أن دموية إسرائيل ليست انحرافًا بل نتيجة لبيئة إفلات من العقاب يجب أن تنتهي وأن أخطاء حماس ليست تفصيلًا ثانويًا بل جزء من معادلة يجب إصلاحها وأن الشعب الفلسطيني لا الحكومات ولا الحركات هو من يدفع وحده ثمن التردد الدولي والتصلب الإسرائيلي والجمود في التفكير الفلسطيني. بدون الاعتراف بهذه الحقائق سيظل كل حديث عن نهاية للحرب مجرد هدنة بين فصلين في مسلسل طويل من الألم.