اللواء الدكتور الحميدان: المشروع السعودي إصلاح لا يستهدف الدين بل يحميه من التوظيف
yasmin ahmad
اللواء الدكتور الحميدان:
المشروع السعودي إصلاح لا يستهدف الدين بل يحميه من التوظيف
بقلم: اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
حادثة الحرم التي قام بها المدعوا جهيمان كانت المرحلة الأولى التي مثلت نقطة انكشاف مبكرة لخطورة الأفكار الدينية حين تتحول من عقيدة روحية إلى مشروع سياسي يرفض الدولة ويقف ضد شرعيتها. لان هذه الحادثه أظهرت بأن التطرف لا يحتاج سوى خطاب مؤدلج يجد طريقه إلى العقول الشابة حتى يتحول إلى فعل يهدد أمن المجتمع ويستهدف أكثر رموزه قداسة. ورغم أن جهيمان لم يكن جزءًا من تنظيم الإخوان إلا أن الحادثة كشفت للدولة أن أي فكر ديني مسيس يمكن أن ينزلق إلى مسار يتجاوز حدود الوعظ والدعوة نحو صدام مباشر مع الدولة. ومنذ تلك اللحظة بدأت السعودية تدرك أن حماية الاستقرار الوطني تستوجب مواجهة أي خطاب يستغل الدين ليبني لنفسه ولاءً يتجاوز الولاء للدولة مهما كان مصدره أو عنوانه.
ومن هنا يمكن قراءة تجربة الصحوة في السعودية اليوم كقصة انتهى فصلها الأخير لتبدأ من بعدها حكاية دولة جديدة تعيد تعريف علاقتها بالدين وبالمجتمع وبالعالم من حولها. لان هذه ليست مجرد حكاية صراع بين التيار الديني والدولة بل هي تحول عميق في بنية التفكير السعودي يقوده مشروع واضح يتبناه ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز والذي يقوم على فكرة حاسمة (الدولة أولًا والوطنية السعودية فوق أي تنظيم أو أيديولوجيا عابرة للحدود).
فالمتتبع للصحوة في السعوديه يدرك انه هذا التيار تشكّل في الثمانينات والتسعينات وكان ابن لحظته التاريخية موجة ضد المشروع الخميني وللجهاد الأفغاني وصراع مع الشيوعية وتمدد فكري للإخوان عبر المعلمين والجامعات وشباب يبحث عن معنى ورسالة. وقد كان يقدم بوصفه مشروعًا لإحياء الدين ولكنه تحول تدريجيًا إلى مشروع ينافس الدولة على تعريف الشرعية وعلى من يملك الحق في الكلام باسم الإسلام والمجتمع.
كما ان أزمة الخليج مطلع التسعينات كشفت هذا التناقض بوضوح لان الدولة اصبحت تواجه تهديدًا وجوديًا على حدودها واختارت خيارًا استراتيجيًا لحماية كيانها واستقرارها بينما جزء من رموز الصحوة يختار خطاب الاعتراض في لحظة لا تحتمل المزايدات. ومن هنا بدأ الشرخ الحقيقي بين الدولة التي رأت أن التيار الذي رعي لعقود لم يعد يتحرك داخل الإطار الوطني بل داخل إطار أيديولوجي أوسع يستمد شرعيته من تصورات تتجاوز حدود الدولة.
ومع أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من ضغوط دولية على السعودية أصبح السؤال الأكثر حدة وهو كيف تحمي الدولة نفسها من أن يتم توظيف الدين ضدها؟ . ومن هنا بدأ التفريق بين دين الدولة ودين التنظيم فالأول مرتبط بالمؤسسات الرسمية والمرجعية التاريخية لتدين المجتمع والثاني مرتبط بخطاب تعبوي يصنع كتلة سياسية تحت غطاء الوعظ. وهذا التمييز كان مقدمة لازمة لما سيأتي لاحقًا وهو تفكيك البنية التي سمحت للصحوة بالتمدد.
ثم بعد ذلك جاء الربيع العربي ليكشف كل شيء. فالإخوان في دول عربية متعددة يطرحون أنفسهم كبديل كامل للأنظمة القائمة. وجزء من خطاب الصحوة في الداخل يتفاعل مع موجة التغيير بحماس ويتبنى لغة قريبة من لغة التغيير الجذري ولو كانت مغلفة بشعارات إصلاحية. ولهذا فان صانع القرار السعودي في حينه لم يعد يرى ان الأمر خلافًا فقهيًا أو اختلافًا حول قضية خارجية بل أصبح تهديدًا مباشرًا لاستقرار الدولة وطبيعة نظامها السياسي وللنسيج الاجتماعي. وفي تلك اللحظة ظهرت الحاجة إلى قرار حاسم يطوي صفحة كاملة لا إلى معالجة هامشية.
ولهذا جاء قرار تصنيف الإخوان كمنظمة إرهابية في عام 2014 خطوة مفصلية ليس في العلاقة مع الجماعة فقط بل في إعادة ضبط المجال الديني والفكري في المملكة. ولهذا أعلنت الدولة بوضوح أن أي تنظيم يسعى لاستغلال الدين من أجل مشروع سياسي عابر للحدود هو خطر على الأمن الوطني. ولهذا فان التحول الجوهري تجسد لاحقًا مع صعود الأمير محمد بن سلمان الذي نقل السعودية من مرحلة إدارة إرث الصحوة إلى مرحلة تجاوز الصحوة بالكامل.
فمن ضمن رؤية 2030 لم يعد التعامل مع الصحوة مجرد ملف أمني بل أصبح جزءًا من تصور شامل لدولة تريد أن تعيش عصرها بثقة. حيث ان القرار لم يكن تقليص نفوذ خطاب متشدد فقط بل إعادة بناء علاقة المجتمع بالدين على أساس أكثر هدوءًا فالدين كقيمة روحية وأخلاقية لا كأداة سياسية. وتحت هذا الإطار تراجع حضور الوجوه الصحوية لصالح خطاب أكثر انسجامًا مع خيارات الدولة ومصالح الناس.
وما فعله الأمير محمد بن سلمان لم يكن مجرد محاربة التطرف بل كان إعادة تعريف لمركزية الدولة في حياة المجتمع. لان فتح فضاءات الترفيه والثقافة والفنون كان كسرًا لاحتكار تيار واحد لمفهوم الحلال والحرام. وان إعادة تنظيم المؤسسات الدينية لم يكن تقليلًا من شأن الدين بل منعًا لتسييسه وربطه بمشاريع تنظيمية. لترسيخ الوطنية السعودية كهوية جامعة وكان ردًا على خطاب كان يقدم الولاء للتنظيم قبل الولاء للوطن.
والإيجابي في هذا التحول أنه لم يأتِ على شكل قطيعة مع الدين بل مع توظيفه سياسيًا. فالمجتمع السعودي لم يُدفع إلى التخلي عن تدينه بل إلى إعادة تموضعه في مساحة طبيعية. مسلم يعتز بدينه وفي الوقت نفسه مواطن يعيش في دولة حديثة لها طموحات عالمية. وهذا التوازن كان غائبًا في زمن الصحوة حين كان يُعرض على الشاب خيار ضمني (إما ملتزم وفق تعريفهم أو متهم بالتساهل ) واليوم انتهت هذه الازدواجية.
ومن زاوية الأمن والاستقرار فان ما جرى تحصينًا للدولة أمام موجات تسييس الدين التي عصفت بدول أخرى وأدخلتها في دوامة صراع. فالسعودية اختارت طريقًا مختلفًا إصلاح من الداخل وحسم مع التنظيمات المؤدلجة وانفتاح مدروس على العالم. وهذا الخيار منح المملكة قدرة أعلى على المناورة الإقليمية وهامشًا أوسع لبناء سياسات خارجية قائمة على المصلحة لا على مزاج تيارات أيديولوجية.
وتجربة الصحوة أصبحت درسًا تاريخيًا. لانه حين يترك المجال طويلًا لخطاب يستمد شرعيته من تنظيم وفكرة عابرة للوطن يتحول إلى منافس للدولة لا إلى شريك في بنائها. والرد لم يكن إقصاء القيم الدينية بل استعادة الدولة لزمام المبادرة وإعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسياسه بما يضمن استقرار المجتمع. وهنا تظهر بصمة القيادة الحالية بوضوح فهي لم تكتفِ بتشخيص الخلل بل ذهبت إلى جذوره وأعادت بناء المشهد بأكمله.
واليوم ينظر جيل جديد من السعوديين إلى مرحلة الصحوة كجزء من التاريخ لا نموذجًا يستعاد. لانه يرى أن التدين يمكن أن يتعايش مع الحداثة وأن الولاء للوطن لا يتعارض مع الإيمان وأن الدولة القوية الواثقة ليست خصمًا للدين بل ضمانة لاستمراره في سياق صحي غير مسيس. وهذا التحول لم يكن ليحدث لولا توفيق الله اولا دور ثم من خلال مشروع سياسي واضح وقيادة قررت أن السعودية يجب أن تُبنى وفق رؤيتها هي لا وفق وصفات تيارات عابرة تستغل الشعارات الدينية لتكريس نفوذها.
وبهذا المعنى فإن تجاوز إرث الصحوة لم يكن نهاية مرحلة فقط بل بداية لتوازن جديد بين الدين والدولة والمجتمع تقوده السعودية اليوم بثقة تحت قيادة الأمير محمد بن سلمان في مسار يتعامل مع الدين باحترام ومع الدولة بحزم ومع الإنسان السعودي باعتباره محور المستقبل لا تابعًا لخطاب أيديولوجي ضيق.