الهديل

خاص الهديل: الثامن من ديسمبر… حين انهار حكم الأسد بصمت

خاص الهديل….

كهرمان…

كان سقوط السلطة الأسدية يوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول بلا ضجيج، أشبه بباب ظلّ يترنّح سنوات طويلة قبل أن ينفصل عن مفصّلاته فجأة. لم تكن هناك لحظة إعلان، بل لحظة إدراك: أن النظام الذي ملأ حياة السوريين نصف قرن لم يعد قادراً على ملء ظلّه. انهار كما تنهار الأشياء التي تكثر شقوقها ثم تتهاوى دفعة واحدة، لا لأنها ضعيفة وحدها، بل لأن من حولها تعبوا من حمل ثقلها.

منذ ذلك الصباح بدا أن البلاد تستعيد إدراكها، كأنها توقفت عن النظر إلى السلطة بوصفها قوة مطلقة، وبدأت ترى هشاشتها. ما كان يُسمّى مركز القرار لم يكن أكثر من واجهة فارغة، تتخللها قرارات متناقضة، مصالح متضاربة، وتدخلات أجنبية ثقيلة. لم تعد الدولة السورية كياناً فعلياً، بل صورة لسلطة فقدت روحها، تتنفس عبر دعم حلفائها، وتعتمد على ميليشيات وتجّار حرب ليواصل كيانها شكلاً دون مضمون.

لم تستمد السلطة شرعيتها من عقد اجتماعي أو توافق سياسي طبيعي، بل من الاستثناء الدائم: حالة طوارئ مفترضة، خطاب خطر وجودي، ونظام مراقبة يفرض الخوف كشرط للبقاء. ومع مرور السنوات، تحول الاستثناء إلى دليل ضعف، وتراجعت الطاعة، وأصبح الانهيار النفسي للنظام أقوى من أي انهيار سياسي محتمل.

فمنذ انقلاب حافظ الأسد عام 1970، اختُزلت الدولة في السلطة، والسلطة في العائلة، والعائلة في شخص واحد. لم تكن المؤسسات أكثر من أدوات ضبط، والمواطن تابعاً، لا شريكاً. ومع تآكل السلطة، ظهر فراغ هائل: دولة بلا جهاز فعّال، وقالب قانوني بلا مضمون تنفيذي، وهكذا انتهى الشكل السلطوي للدولة وليس الدولة نفسها.

في السنوات الأخيرة، سيطر منطق المنفعة على منطق السياسة. تحولت السلطة إلى شبكة مصالح بين ضباط الأمن، رجال الأعمال، وسطاء، وأمراء حرب، وميليشيات محلية وخارجية. لم تعد المصلحة العامة معياراً، بل حصة كل طرف، فانهار النظام تآكلاً تدريجياً، قطرة بعد أخرى، لا بانفجار واحد.

مع انهيار المركز، فقدت السلطة قدرتها على إدارة الأزمات، ضبط الاقتصاد، السيطرة على المحافظات، واحتكار القوة. انتقلت السيطرة إلى ميليشيات داخلية وخارجية، وتحول مركز القرار إلى عنوان بلا مضمون، وقشرة بلا قلب. وهنا بدا الانهيار وكأنه عملية طويلة، ممتدة، وليس لحظة واحدة.

ومع هذا الانهيار النفسي والسياسي، أصبح السوريون يرون السلطة كما هي: ضعيفة، بشرية، بلا هالة أسطورية، فاقدة لسلاحها الأخطر — الخوف. وبفقدان الخوف، تراجعت الطاعة، وسقط الاستبداد نفسياً قبل أن يسقط رسمياً.

لم يشعر السوريون بالحزن. فالسلطة لم تكن يوماً ملكهم، ولم تمنحهم إحساس الانتماء، ولم تُرهقهم لشيء سوى البقاء. جاء رحيلها بلا دموع، بلا عزاء، وباستراحة داخلية تشبه التنفّس بعد سنوات اختناق طويل.

لكن سقوط السلطة الأسدية ليس نهاية الحكاية. أمام السوريين اليوم مرحلة انتقالية مليئة بالتحديات: صراع نخب، إرث عنف، اقتصاد منهك، ومجتمع منقسم. ومع ذلك، هذه هي المرة الأولى منذ عقود التي تصبح فيها صفحة المستقبل مفتوحة، يمكن كتابتها بعيداً عن حكم الفرد والحزب الواحد.

الخيار أمام السوريين ليس بين الفوضى والاستبداد، بل بين إعادة إنتاج النظام القديم بصيغ جديدة، أو بناء مشروع وطني شامل قائم على المشاركة. وإذا استطاع السوريون تحويل ذاكرة الألم إلى وعي سياسي، يمكن لهذه اللحظة أن تصبح بداية لدولة طبيعية: دولة مواطنين لا رعايا، دولة قانون لا أجهزة، ودولة تنتمي لشعبها لا لعائلة حاكمة.

Exit mobile version