بقلم اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
منذ أن تمددت جماعة الحوثي بقوة السلاح داخل اليمن لم يكن مشروعها في أي مرحلة مشروع دولة بل مشروعًا ميليشياويًا بامتياز يتغذى على الفوضى ويستمد وجوده من انهيار مؤسسات الدولة. وهذه الجماعة التي خرجت من كهوف صعدة محمله بخطاب أيديولوجي مغلق حاولت أن تلبس نفسها عباءة الثورة لكنها في الحقيقة كانت انقلابًا صريحًا على الجمهورية وعلى الشرعية السياسية التي اختارها اليمنيون. فسلوكها منذ لحظة الانقلاب في عام 2014 وحتى اليوم لم يكن إلا سلوك الميليشيا الخارجة عن منطق الدولة تقتل وتنهب وتخضع المجتمع بالقوة وتعيد اليمن إلى زمن الإمامة الذي ظنه اليمنيون صفحة مطوية في التاريخ.
إن التحليل الموضوعي لطبيعة الحوثي يكشف أنه ليس حركة ذات مشروع وطني بل أداة إيرانية تدار من الخارج لخدمة أجندة إقليمية هدفها تطويق الجزيرة العربية وخلق جيب تابع لطهران على حدود السعودية الجنوبية. فالميليشيا لم تكتف بإسقاط صنعاء والسيطرة على مؤسسات الدولة بل تحولت إلى ذراع عسكرية تهاجم الأمن الإقليمي عبر الصواريخ والطائرات المسيرة وتستهدف السفن التجارية في البحر الأحمر في انتهاك واضح لكل الأعراف الدولية. علما بأن هذه الهجمات المتكررة على الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب ليست سوى محاولة لابتزاز المجتمع الدولي وفرض وجود سياسي من موقع الفوضى لأن الحوثي في جوهره يعيش على الأزمات ويتقن صناعتها مدركًا أن أي حالة استقرار في اليمن تعني زوال مبرر بقائه.
ولا يقف التهديد الحوثي عند حدود اليمن بل يمتد إلى قلب أمن الطاقة والتجارة العالمية. فمضيق باب المندب الذي يمر عبره أكثر من عشرة في المئة من التجارة الدولية بات تحت تهديد صواريخ جماعة لا تعترف بالقانون الدولي ولا تملك الحد الأدنى من المسؤولية السياسية. وهذا الأمر يتجاوز الإطار اليمني إلى الإطار الدولي ما يجعل التعامل معه قضية أمن عالمي وليس مجرد شأن داخلي. ومع ذلك يحاول الحوثي تقديم نفسه كفاعل سياسي يمكن التفاوض معه بينما تؤكد أفعاله أنه لا يؤمن إلا بمنطق السلاح ولا يفهم الدولة إلا باعتبارها غنيمة.
وفي هذا السياق برزت جهود المملكة في المسار السياسي وعلى رأسها خارطة الطريق التي طرحتها الرياض والمكوّنة من أربع مراحل والتي كانت الأساس لقيام الهدنة. وقد شكّلت هذه الخارطة إطارًا عمليًا لإنهاء الحرب وإعادة اليمن إلى مسار الدولة. غير أن الحوثي انخرط لاحقًا في حرب غزة وتبنّى خطابًا تصعيديًا خارج حدود اليمن ما أدى إلى عرقلة الجهود السياسية للمملكة وإيقاف تقدم مراحل الخارطة مما يبرهن مرة أخرى أن الجماعة تتحرك وفق أجندات خارجية لا امتداد لها في مصلحة اليمن أو استقراره.
كما أثبتت التطورات أن الحوثي يمتلك قدرة متنامية على تهديد سلاسل الإمداد العالمية للطاقة والملاحة في باب المندب مستفيدًا من امتلاكه صواريخ متطورة وطائرات درونز وتقنيات دعم خارجي مكّنته من بناء بنية قتالية قادرة على التخريب. إضافة إلى ذلك يملك الحوثي القدرة على تأهيل وتدريب عناصر يمكن أن تتحول مستقبلًا إلى تهديد عابر للحدود أو تنخرط ضمن التنظيمات الإرهابية في مختلف أنحاء العالم مما يرفع مستوى الخطر من جماعة محلية إلى تهديد دولي.
وفي مواجهة هذا المشهد المضطرب برز الدور السعودي كركيزة أساسية في حفظ توازن الإقليم. فالسعودية لم تكن طرفًا يسعى إلى الحرب بل وجدت نفسها مضطرة إلى التحرك استجابة لنداء الحكومة الشرعية اليمنية بعد أن سقطت مؤسسات الدولة في قبضة جماعة انقلابية مدعومة من الخارج. وكانت تدخلاتها جزءًا من مسؤوليتها التاريخية تجاه أمن اليمن واستقراره وتجاه أمنها القومي وأمن الممرات البحرية الحيوية للعالم بأسره. فالمملكة لم تواجه الحوثي دفاعًا عن حدودها فقط بل عن فكرة الدولة اليمنية نفسها وعن مبدأ أن السلاح لا يمكن أن يكون بديلا عن السياسة.
والتحالف الذي قادته الرياض لم يكن حربًا عبثية كما حاول خصومها تصويره بل تدخلًا مشروعًا لإعادة الشرعية ومنع اليمن من التحول إلى بؤرة إرهابية جديدة على غرار تجارب إقليمية أخرى. ومن خلال هذا التحالف تمكنت المملكة من منع سقوط اليمن بالكامل بيد الميليشيا ومن تقليص قدراتها العسكرية وإعادة بناء توازن القوى في الساحة اليمنية. كما تحملت العبء الأكبر من الإغاثة الإنسانية ودعم البنى التحتية في وقت استثمرت فيه الميليشيا معاناة الشعب لتغذية خطابها الدعائي وتحويل المساعدات إلى أداة حرب داخلية.
ويمتاز الدور السعودي أيضا بأنه لم يتوقف عند المواجهة العسكرية بل تطور إلى رعاية المسارات السياسية وإعادة ضبط الإيقاع الدبلوماسي للملف اليمني. فقد احتضنت الرياض وجدة ومكة جولات تفاوض متعددة برعاية سعودية وأعادت النقاش إلى طاولة الحل السياسي بعد أن كان خاضعًا لمنطق القوة. وهذه الدبلوماسية الهادئة تعكس إدراك السعودية أن أمنها يبدأ من استقرار جيرانها وأن الحل الدائم في اليمن لا يمكن أن يتحقق إلا بعودة الدولة ومؤسساتها لا ببقاء الميليشيات.
واليوم وبعد عقد من الفوضى التي أشعلها الحوثي يتضح أن مشروعه بدأ يتآكل وأن مناطق سيطرته تعيش أزمة اقتصادية خانقة وسخطًا شعبيًا متصاعدًا وعزلة دولية واضحة. وفي المقابل تبدو السعودية أكثر حضورًا إقليميًا ودوليًا بوصفها صمام أمان للمنطقة وفاعلا رئيسيًا في ضبط التوازنات ومنع انزلاق اليمن إلى هاوية لا عودة منها. وقد أثبتت التجربة أن من يقف خلف استقرار اليمن هو من يسعى لإعادة الدولة لا من يقوضها وأن القوة الحقيقية ليست في إطلاق الصواريخ من الجبال بل في القدرة على بناء سلام مستدام يعيد لليمنيين دولتهم وهويتهم.
وبهذا المعنى لا يمكن النظر إلى الحوثي إلا كميليشيا متمردة هددت الأمن اليمني والإقليمي وأسقطت الدولة الشرعية بينما تبقى السعودية الطرف الذي أعاد رسم التوازن ومنع الفوضى من التحول إلى واقع دائم. فهي لم تدافع عن حدودها فقط بل عن فكرة الدولة العربية ذات السيادة وعن النظام الإقليمي القائم على الاستقرار لا على الفوضى. ومن هذه الحقيقة ينطلق فهم المشهد اليمني اليوم الحوثي مشروع أزمة والسعودية مشروع دولة.
@alatif1969
