خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
ينشغل العالم بوثيقة الأمن القومي الأميركي التي صدرت مؤخراً والتي تعبر عن أفكار دونالد ترامب.. جرت العادة أن يصدر كل رئيس أميركي وثيقة مشابهة تحمل إسم مبدأ الرئيس الذي تصدر بخلال ولايته.. هناك مثلاً وثيقة بإسم مبدأ نيكسون وأخرى بإسم مبدأ كارتر، الخ.. لكن مبدأ ترامب كما عرضت له وثيقة الصفحات الثلاثين، ربما حصدت أكبر ردود فعل دولية عليها، مقارنة بكل الوثائق التي أصدرها رؤوساء الولايات المتحدة الأميركية السابقون؛ والسبب يعود لكون ترامب يطرح أفكاراً انقلابية تعاكس الثوابت التي قامت عليها أسس الاستراتيجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن.
ولعل فوكوياما كان أول من سجل ملاحظة عميقة عبّر فيها عن أن ترامب يعبّر عن شيء جديد يولد داخل ليس فقط العقل الأميركي بل كل العقل الغربي أيضاً.
لقد فضل فوكوياما منذ وقت مبكر أن ينظر لظاهرة ترامب من زاوية أعمق من تلك المطروقة بكثافة في الإعلام؛ فهو لاحظ عدة أمور لافتة؛ أولها أن الأميركيين حينما انتخبوا ترامب أول مرة عام ٢٠١٦ لم يكن يعرفونه ولم يكونوا مطلعين على أفكاره؛ ولكنهم حينما انتخبوه في المرة الثانية عام ٢٠٢٤ فعلوا ذلك عن قناعة به ولكونهم يعرفونه ويوافقون على أفكاره.. الأمر الثاني الذي سجله فوكوياما يشرح أن السبب الذي جعل الأميركيين ينتخبون بنسبة عالية ترامب؛ يعود بالأساس إلى اعتراضهم على التشوهات التي أصابت الليبرالية الكلاسيكية منذ ثمانينات القرن الماضي حتى الآن. وبرأي فوكوياما فإن الغرب عاش بعد الحرب العالمية الثانية داخل معاني قيم الليبرالية الكلاسيكية التي توفر كرامة متساوية للناس يضمنها القانون. ولكن خلال العقود الأخيرة، وبخاصة خلال العقدين الأخيرين، طرأ تشوهاً على قيم الليبرالية الكلاسيكية بفعل صعود قيم الليبرالية الجديدة (النيو ليبرالية) التي تقدس الأسواق على حساب حماية الضعفاء. وبالتزامن ظهر ما يسميه فوكوياما “بالليبرالية المستيقظة” التي تعطي لجماعة معينة مكاسب على حساب جماعات أخرى. والمقصود هنا هو الطروحات الفكرية والقيم المتطرفة الجديدة التي طرحها اليسار الليبرالي الصاعد داخل كل من الحزب الديموقراطي الأميركي وداخل حزب العمال البريطاني، وإليهما التيارات اليسارية الناشطة داخل أحزاب عدة في أوروبا.. وكل هذه الاتجاهات طرحت ما أسمته قيم حماية الحرية الفردية التي تشمل المتحولين جنسياً والجندرا و”ثقافة اليقظة” (حماية الأغيار والمهاجرين، الخ..).
وينتهي فوكوياما لخلاصة تفيد أن الأميركيين صوتوا لترامب ليعربوا عن احتجاجهم ضد ما أصاب الليبرالية الكلاسيكية التي عاشوا في كنفها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية من تشوهات تسببت بها محاولات اليسار الليبرالي فرض قيم اجتماعية وثقافية جديدة مغايرة لقيم المجتمعات الغربية المحافظة.
وتبين وثيقة مبدأ ترامب (أو وثيقة الأمن القومي الأميركي) أن أولويات إدارة ترامب تقع في المجال الذي تحدث عنه فوكوياما، وهو خوض صراع داخل الفضاء الليبرالي الغربي “لتحريره” من الليبراليات المستجدة وبخاصة الليبرالية المستيقظة. وفي هذا المجال لا يمكن فهم توجه ترامب لطرد مئات آلاف الموظفين من القطاع العام الحكومي الأميركي، إلا من زاوية أنه يريد إنجاز ما يسميه “تطهير” القطاع الحكومي والجيش من نتائج سياسة التوظيف التي اتبعها الليبراليون اليساريون بداخله، وهي إعطاء كوتا داخل كل قطاع وظيفي للمختلفين ثقافياً، كالمتحولين والمهاجرين، وأيضاً إعطاء كوتا للمرأة داخل وظائف الدولة والجيش. والفكرة التي يختلف معها ترامب ومن يمثل داخل الليبرالية الكلاسيكية – التي صار يمكن تسميتها الآن في ظل صراع الليبراليات المستجد، بالليبرالية المحافظة – تتعلق بأنه يحق للمرأة ولأي مواطن أن يحصل على وظيفة في الدولة ولكن بناء على مؤهلاته وليس لأنه مختلف اجتماعياً أو كونه أنثى. فالأفضل يحصل على فرصة الوظيفة ولا مكاسب لأحد لكونه ينتمي لجنس مغاير أو يمارس قيماً مغايرة. ويصل الصراع بين ترامب الليبرالي الكلاسيكي المحافظ – إذا جاز الاصطلاح – وبين الليبراليات الجديدة والمستيقظة بخاصة، إلى حد القطيعة والصراع الوجودي، وذلك على خلفية ما يعنيه مفهوم “ثقافة اليقظة” الذي طرحته الليبرالية المستيقظة، وهو مصطلح لا يعني فقط أنه يتوجب على المجتمع بعامة وبخاصة المحافظ ليس فقط أن يحترم حرية اختيار الإنسان لنوعية جنسه أو أن يحترم خيار المتحولين جنسياً؛ بل يتوجب بل ويجب على الدولة والمجتمع أن يقوما بفرض “عقوبة العزل” (حجزه في منزله) على كل شخص يبدي سلوكاً نقدياً لهؤلاء المختلفة مفاهيمهم عن الاجتماع السائد أو المهاجرين، الخ..
.. وعليه، يصبح مفهوماً لماذا اعتبرت وثيقة الأمن القومي الأميركي (مبدأ ترامب)، أن أولوية الولايات المتحدة الأميركية هي تصحيح الفضاء الثقافي والليبرالي والديموقراطي في القارة الأوروبية المهددة حسب الوثيقة بأنها سوف تصبح غير موجودة حضارياً بعد عشرين عاماً إذا استمرت تحت سيطرة مناخات الليبراليات المغايرة لليبرالية الكلاسيكية التي تدعو أنظمة الحكم للتسامح مع تدفق المهاجرين والخروج عن فطرة الإنسان، الخ.
إن أهم جانب في مبدأ ترامب الذي أعلنته وثيقة الأمن القومي تتمثل بأنها تعلن بدء الحرب الأميركية المفتوحة داخل جبهة صراع الليبراليات؛ وتعلن انتهاء الوئام بين ضفتي الأطلسي وأنها ذاهبة لتحديد العالم وفق مصطلحات جديدة تعتبر أن مفهومي غرب وشرق انتهى، والسبب هو أن الولايات المتحدة انسحبت من الغرب لتتبنى الإقامة داخل مصطلح النصف الغربي للكرة الأرضية الذي كان يسمى بالعالم الجديد والذي يضم دولاً من قارات مختلفة..
