اللواء الدكتور الحميدان: إدارة التوازنات في المهرة الدور السعودي والاعتبارات العُمانية
yasmin ahmad
اللواء الدكتور الحميدان:
إدارة التوازنات في المهرة الدور السعودي والاعتبارات العُمانية
بقلم: اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
يشكل الشرق اليمني الممتد من حضرموت إلى المهرة على حدود سلطنة عُمان إحدى أكثر المناطق حساسية في خارطة الأمن الخليجي نظرًا لطبيعته الجيوسياسية الفريدة واتصاله العضوي بالمجال الحيوي لدول الخليج وفي مقدمتها السعودية وعُمان. ففي الوقت الذي تتراجع فيه بعض جبهات الصراع التقليدية في اليمن تبرز هذه المنطقة بوصفها ساحة توازنات دقيقة حيث يتقاطع البعد القبلي والاجتماعي مع مشاريع النفوذ الإقليمي. ومن هذا المنطلق يغدو فهم التوترات في المهرة وحضرموت جزءًا ضروريًا لفهم مستقبل اليمن نفسه حتى وإن كانت المنطقة تبدو أقل اشتعالًا من غيرها. وإن قراءة هذه التطورات في سياقها الإقليمي يسمح بإدراك مدى تأثيرها على أمن الخليج واستقراره ويكشف حجم التداخل بين التحولات المحلية وحسابات الجغرافيا السياسية الأوسع.
ويشهد المشهد اليمني على حدود سلطنة عُمان تعقيدًا سياسيًا وأمنيًا متصاعدًا تشكله تفاعلات القوى المحلية والإقليمية لاسيما في محافظتي المهرة وحضرموت حيث يحاول المجلس الانتقالي الجنوبي تكريس حضور سياسي وأمني أوسع بينما تتعامل عُمان بحساسية شديدة مع أي تغير في موازين القوى المجاورة لحدودها. وفي هذه المنطقة التي لطالما اتسمت بالهدوء مقارنة ببؤر الصراع الأخرى في اليمن تتداخل اعتبارات جيوسياسية تتجاوز قدرة أي طرف منفرد على رسم مسار نهائي للأحداث إذ ترتبط المهرة تحديدًا بمزيج من البنية القبلية المستقلة وعمقها الاجتماعي التاريخي باتجاه عُمان فضلًا عن موقعها الاستراتيجي الذي جعلها محط اهتمام قوي للفاعلين الإقليميين.
ولهذا فإن المجلس الانتقالي المدعوم إماراتيًا يسعى إلى تعزيز نفوذه شرقًا لإكمال رؤيته السياسية المستقبلية المرتبطة بمشروع الجنوب. لكن هذا التوسع ليس حدثًا معزولًا بل يأتي في لحظة سياسية دقيقة تشهد فيها الساحة اليمنية حالة من التوتر مع غياب تسوية وطنية شاملة وتنافس مراكز السلطة داخل معسكر الشرعية. وهذا الوضع أتاح للانتقالي هامشًا للتمدد مستفيدًا من الدعم العسكري والمالي والإعلامي الإماراتي ومن رغبة بعض القوى المحلية في البحث عن حليف يوفر لهم حماية أو تمثيلًا أقوى في مرحلة ضبابية. غير أن هذا التمدد يظل محفوفًا بقيود جيوسياسية أبرزها رفض عُمان لأي ترتيبات قد تدخل قوى مسلحة موالية لخصومها على حدودها المباشرة وإدراك السعودية أن توازن القوى في الشرق يجب أن يدار بحكمة تجنبًا لتغيير بنية النفوذ في محيطها الحيوي.
وفي هذا السياق يتخذ الدور السعودي أهمية خاصة بوصفه العامل الأكثر قدرة على منع التصعيد وضبط مسار التفاعلات. فالسعودية التي تحملت العبء الأكبر من إدارة الملف اليمني طوال سنوات الحرب تتجه في هذه المرحلة نحو سياسة أكثر هدوءًا وواقعية تغلب فيها منطق التهدئة والاستقرار على منطق الحسم العسكري أو إعادة رسم الخريطة السياسية بالقوة. وبفضل علاقاتها المفتوحة مع مختلف الأطراف من الحكومة اليمنية إلى القوى المحلية في الشرق إضافة إلى إدراكها العميق لحساسية الموقف العُماني تلعب الرياض دور الوسيط الضروري لضبط إيقاع التنافس ومنع احتكاكات قد تنعكس سلبًا على أمن المنطقة.
ويتجلى الدور السعودي الإيجابي في عدة مستويات. فمن جهة تعمل الرياض على منع عسكرة المهرة أو توظيفها كساحة صراع بين القوى المحلية والإقليمية وتحرص على إبقاء حضورها الأمني هناك في إطار منضبط يطمئن عُمان ويكبح أي محاولات لفرض نفوذ بالقوة. ومن جهة أخرى تشجع السعودية على تعزيز السلطات المحلية وتمكينها بما يخدم مصالح السكان ويبقي المنطقة خارج دوامة الصراع التي ابتلعت معظم اليمن. كما تدفع نحو صياغة ترتيبات سياسية تضمن توازنًا بين القوى المختلفة فلا ينتصر طرف انتصارًا كاملًا ولا يشعر آخر بالإقصاء وهو نهج يقلص احتمالات الانفجار ويحافظ على مسار التهدئة الذي بات خيارًا استراتيجيًا للرياض.
وفي ظل هذا التوازن الدقيق يبدو مستقبل التوتر على حدود عُمان متجهًا نحو سقف سياسي لا عسكري. فالقوى الدولية والإقليمية بما فيها السعودية وعُمان لا ترغب في إشعال جبهة جديدة والقبائل المهرية ترفض عسكرة محافظتها بينما يدرك المجلس الانتقالي أن تقدمه شرقًا بلا توافق إقليمي سيكلفه أكثر مما سيكسبه. لذلك فإن الغالب أن تنتهي هذه التوترات بتفاهمات تدريجية تبقي المهرة منطقة مستقرة نسبيًا وتحد من طموحات التمدد الميداني وتمنح الأطراف مساحة للعمل السياسي دون صدام.
والمشهد من زاوية أوسع تكشف أن مستقبل المهرة وحضرموت لا يتوقف فقط على موازين القوى بل يتأثر أيضًا بعوامل اقتصادية واجتماعية تتشكل بهدوء. فالحضور القبلي الراسخ وتنامي الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية وتزايد الاعتماد على التجارة الحدودية جميعها تجعل المجتمعات المحلية أكثر حساسية تجاه أي تحويل للمحافظة إلى منطقة نفوذ عسكري. كما أن مشاريع الطاقة والممرات التجارية المحتملة تضيف بعدًا اقتصاديًا جديدًا على هذه المنطقة ويعطي للتهدئة فيها قيمة استراتيجية مضاعفة.
علما بأن التفاعلات في المهرة وحضرموت تتجاوز في تأثيرها حدود اليمن باتجاه المنظومة الخليجية بأكملها. فاستقرار الشرق اليمني أصبح جزءًا من معادلة الأمن السعودي العُماني ومن ركيزة مهمة في منع تشكل بؤر توتر جديدة قد تؤثر على خطوط التجارة والطاقة في المنطقة. وهذا ما يجعل السعودية وعُمان تتعاملان مع الملف بدرجة عالية من الحكمه والتروي و من التنسيق الجيد وبمنطق إدارة التوازنات لا كسرها.
وأما بالنسبة لمستقبل اليمن فإن ما يجري في الشرق يعد مؤشرًا على شكل التسوية القادمة تسوية لا تقوم على انتصار طرف واحد بل على هندسة توازنات مرنة بين القوى المحلية والإقليمية تراعي الحقائق الاجتماعية والقبلية والجيوسياسية معًا. وإذا ما نجحت هذه المقاربة في المهرة وحضرموت فقد تشكل نموذجًا يمكن البناء عليه لتثبيت الاستقرار في مناطق أخرى من اليمن.
وعليه فإن المشهد الشرقي لليمن لا يقرأ فقط كمنطقة هامشية بعيدة عن قلب الصراع بل كمساحة اختبار حقيقية لقدرة اليمن والخليج على إنتاج مقاربة جديدة للأمن الإقليمي تتجاوز منطق السلاح نحو منطق التفاهمات والضبط المتبادل للعلاقات وهو ما يجعل مستقبل هذه المنطقة جزءًا لا يتجزأ من مستقبل الاستقرار في اليمن والخليج معًا.