خاص الهديل….
![]()
كهرمان
تتجدد المحاولات في تركيا لفتح نافذة سلام مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، رغم التعقيدات التي تطوّقه من كل الجهات. ومع أن الطرفين يراهنان على قانون العفو الجديد – أو ما تُسمّيه أنقرة “قانون العودة” – إلا أن السؤال الجوهري يبقى: هل يكفي تشريع واحد لتفكيك أكبر عقدة أمنية وسياسية عرفتها الجمهورية منذ أربعة عقود؟
من يتابع التطورات الأخيرة يلاحظ أن المزاج الشعبي التركي لا يشبه المزاج الكردي. فالكثير من الأتراك لا يزالون يحفظون جيداً درس 2015 حين سقطت عملية السلام السابقة في بئر العنف. وفي المقابل، بقيت غالبية الأكراد متطلعة إلى أي بارقة أمل توقف نزيفاً دفعوا ثمنه الأكبر.
المفارقة الأولى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه لا يبدو متحمساً كما كان قبل أكثر من عشر سنوات، على الرغم من أن شريكه الأبرز في الحكم، زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي، هو الذي فتح الباب حين دعا أوجلان إلى دعوة رجاله للتخلي عن السلاح حتى لو من داخل البرلمان التركي.
هذه الدعوة قلبت المشهد. فبهتشلي – الذي كان أشد معارضي عملية السلام السابقة – بدا فجأة وكأنه راعٍ لمسار جديد، ما أثار حيرة الجميع. إلا أن دعوة أوجلان من داخل سجنه، ثم إعلان حزب العمال إحراق أسلحتهم “رمزياً”، كشف حجم الهوة بين الرمزية المطلوبة للسلام والحقيقة الصلبة على الأرض.
فالتنظيم لم يسلّم سلاحه إلى الآن، وقياداته في جبال قنديل – بحسب الصحف التركية – تتحدث بلهجة متعالية تربك المزاج العام في تركيا، وتزرع الشكوك حول جدية النوايا. وحين قالت القيادية في حزب العمال الكردستاني “ويسي هوزات” إنهم “لم يرتكبوا أي جريمة، ولا نسعى للعفو”، جاء بهتشلي ليرد بالقول في مقابلة مع صحيفة “تورك غون”، القريبة من حزبه، إن “الجرائم المرتكبة واضحةٌ لا لبس فيها، وموثقةٌ أمام التاريخ والضمير الاجتماعي، على كل فرد أن يعرف حدوده”!.
الخلل الأكبر اليوم ليس في النصوص القانونية بقدر ما هو في تشوش هوية المتحدثين باسم الأكراد. فكل طرف من القوميين الأتراك إلى حزب العمال إلى حزب DEM يدّعي أنه وحده يجسد المطالب الكردية.
وعليه تبدو هذه الفوضى “السياسية” تشوّه الصورة الحقيقية للطموحات الكردية التي حققت تقدماً واضحاً كلما انخفض صوت السلاح، وليس بالعكس. فالتجربتان الواضحتان – 1999–2003 و2012–2015 – تشهدان على ذلك.
وإذا كانت تركيا تسعى لإغلاق ملف حزب العمال، فإن فروعه – كما تصف تركيا – في سوريا تزيد المشهد تعقيداً. فقوات سوريا الديمقراطية التي تراها تركيا نسخة عنPYD/YPG ، لا تزال تمتلك نفوذاً عسكرياً وسياسياً واسعاً، وتتعامل مع دمشق والولايات المتحدة في آن واحد.
الاتفاق الأخير بين قائد قسد مظلوم عبدي والرئيس السوري أحمد الشرع – بوساطة أميركية – شارف على الانتهاء بدون تنفيذه كلياً. وذلك يمكن وضع تركيا على خط تماس مباشر مع مستقبل شمال سوريا. فأنقرة ترى أن تفكيك حزب العمال شرط طبيعي لتفكيك قوّة قسد، وإلا فسيظل التهديد قائماً على حدودها الجنوبية.
لكن الحقيقة أن هذا الملف صار ساحة مفتوحة لتدخلات إسرائيلية – وفق تقديرات تركية – إضافة إلى رغبة واشنطن في إدارة الملف بما يخدم مصالحها لا مصالح الأكراد ولا مصالح تركيا.
أمام هذا المشهد، يبدو واضحاً أن “قانون العودة” لن يكون عصا سحرية. فالتفاصيل السياسية المتشابكة، والصراع الصامت داخل البيت الكردي، تجعل أي اتفاق هشاً قبل أن يُكتب له الحياة.
الاستفزاز الذي أثارته صور بارزاني في جِزرة مثلاً، كان نموذجاً صغيراً على حساسية المزاج التركي تجاه أي رمز يُحتمل أن يلتبس مع رموز حزب العمال. فتداعيات صورة واحدة كادت تهدد المسار كله.
ورغم هذه الحقول المتفجرة، لا تزال هناك أصوات – من صحافيين وباحثين وسياسيين – تبحث عن مخرج حقيقي يُنهي أربعة عقود من معاناة مشتركة. ربما لأن السلام في تركيا لم يفشل يوماً بسبب غياب الرغبة، بل بسبب غياب الثقة.
وربما لأن الطريق الذي يبدأ من إطفاء السلاح قد يكون طويلاً، لكنه الطريق الوحيد الذي جربه الطرفان ووجداه أقل كلفة على الجميع.

