بقلم اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
تدخل العلاقات السورية اللبنانية مرحلة تتنازع فيها نزعتان متوازيتان. الأولى ميل متزايد لدى مؤسسات الدولة في البلدين إلى إخضاع الملفات المتراكمة لأطر قانونية وإدارية واضحة بدلا من إبقائها رهينة التسويات الظرفية. والثانية استمرار البيئة الإقليمية في إنتاج ضغوط تجعل كل خطوة ثنائية قابلة لإعادة التسييس وربطها بصراعات أوسع. وبين هاتين النزعتين يبرز ملف ترسيم الحدود ومزارع شبعا والتفاهم على معالجة ملف السجناء السوريين بوصفه اختبارا حقيقيا لمدى قدرة الطرفين على الانتقال من إدارة الأزمات إلى بناء علاقة مؤسسية مستقرة.
ولهذا ترسيم الحدود في جوهره ليس مسألة تقنية أو خرائطية فقط بل هو فعل سيادي يعيد تعريف حدود الدولة وكيفية ممارستها. فالعلاقات السورية اللبنانية لطالما اتسمت بحدود رخوة اجتماعيا واقتصاديا وأمنيا وبمساحات تداخل أنتجت عبر الزمن أنماطا من الاقتصاد غير المنظم وشبكات مصالح عابرة للخطوط الرسمية. ومن هنا فإن أي تقدم في الترسيم يعني عمليا نقل العلاقة من منطقة الالتباس الوظيفي إلى منطق الوضوح الإجرائي. وهذه النقلة تفرض أسئلة داخلية حساسة في لبنان تتصل بدور المؤسسات المدنية والأمنية وبكلفة ضبط المعابر على التوازنات المحلية. كما تطرح في سورية تساؤلات موازية حول كيفية التوفيق بين تثبيت السيادة القانونية والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي في المناطق الحدودية. لذلك فإن نجاح الترسيم يرتبط بقدرة القيادتين على إنتاج خطاب داخلي يوضح ان هذه الأجراءات تعني إعادة تنظيم ضرورية للدولة لا كتنازل سياسي.
وفي هذا السياق تبرز مزارع شبعا كعقدة مركبة لا تختزل بترسيم الحدود لكنها لا تنفصل عنه. فالقضية ليست فقط في تحديد الصفة القانونية للأرض بل في ما يترتب على هذا التحديد من آثار سياسية وأمنية تتصل بالصراع مع إسرائيل وبالخطاب السيادي في لبنان وبإدارة الشرعية الدولية. تاريخيا لعب الغموض دورا وظيفيا سمح بتعدد القراءات وتداخل الأدوار. غير أن الدخول في مسار ترسيم منظم يضع هذا الغموض أمام استحقاق مختلف. لكي يصبح التعامل مع الوثائق والخرائط والسجلات أمرا لا يمكن تأجيله أو القفز فوقه. وهنا تبرز الحاجة إلى مقاربة عقلانية تفصل بين تثبيت الحق القانوني وإدارة تداعياته السياسية. فإثبات الصفة القانونية لمزارع شبعا يتطلب عملا توثيقيا مشتركا وشفافا. وأما تحويل هذا الإثبات إلى عنصر استقرار فيتطلب إدارة دقيقة لتوازنات الداخل اللبناني ولانعكاساته الإقليمية. ومن هنا تبدو المقاربة الواقعية قائمة على تراكم قانوني هادئ لا على مواقف عالية السقف تعيد إنتاج الانقسام.
وبالتوازي يشكل ملف السجناء السوريين في لبنان أحد أكثر الملفات حساسية لأنه يقع عند تقاطع الأمن والحقوق والسياسة. فغياب آلية قانونية واضحة خلال السنوات الماضية حول هذا الملف إلى عبء على المؤسسات اللبنانية وإلى مصدر توتر إنساني وإعلامي دائم. ومن منظور الدولة اللبنانية يبرز تحدي الموازنة بين متطلبات الأمن واحترام المعايير القضائية ومنع الاحتجاز الطويل دون مسار قضائي واضح. ومن منظور الدولة السورية تتصل القضية بمسؤولية حماية المواطنين وبضرورة ضمان معالجات عادلة لا تتحول إلى أدوات ضغط أو مساومة. لذلك فإن الحديث عن إشراف قانوني مشترك لا يعد تفصيلا تقنيا بل يمثل جوهر أي حل قابل للاستمرار.
ولهذا فان المقاربة الرصينة لهذا الملف تبدأ ببناء آلية متعددة المستويات. مستوى قضائي يحدد الحالات بدقة ويفصل بين الموقوفين والمحكومين ومن هم قيد المحاكمة وفق معايير موثقة. ومستوى حقوقي يضمن حق الدفاع والمراجعة القضائية ومراقبة شروط الاحتجاز. ومستوى إداري ينظم إجراءات التعاون القضائي ونقل المحكومين أو استكمال المحاكمات وفق بروتوكولات واضحة. وبدون هذا البناء المتدرج فربما ستبقى القضية عرضة للتسييس الداخلي أو للتوظيف الخارجي. كما أن فصل هذا الملف عن غيره من الملفات الحدودية يشكل شرطا أساسيا لنجاح أي معالجة قانونية جادة.
وتكشف هذه الملفات الثلاثة في العمق عن معضلة واحدة. وهي أن العلاقات السورية اللبنانية أُديرت طويلا بمنطق الاستثناء عبر ترتيبات غير مكتوبة قابلة للتبدل مع تغير الظروف. أما اليوم فإن الحديث عن الترسيم والتفاهمات القانونية يعكس محاولة إدخال العلاقة في منطق القاعدة والمؤسسة. غير أن هذا الانتقال يواجه مقاومة من شبكات ومصالح استفادت من الرمادية ومن غياب الوضوح. لذلك فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في رسم الخطوط على الخرائط فقط بل في بناء توافق داخلي يسمح بتحويل هذه الخطوط إلى أدوات سيادة وتنظيم لا إلى بؤر نزاع جديدة.
ويضاف إلى ذلك أن أي مسار ثنائي ينبغي ان لا يتحرك في فراغ. فترسيم الحدود يتأثر بحسابات إقليمية ودولية. وملف شبعا مرتبط مباشرة بمسار الصراع مع إسرائيل. وملف السجناء يتقاطع مع المناخ الحقوقي الدولي ومع تعقيدات الملف الاجتماعي والإنساني في لبنان. ومن هنا تبرز أهمية اعتماد مبدأ فصل المسارات وتوسيع هامش الاتفاقات التقنية والقانونية التي يصعب تعطيلها لأنها تمس مصالح يومية مباشرة للدولة والمجتمع.
وفي الخلاصة لا يمكن النظر إلى ترسيم الحدود ومزارع شبعا وملف السجناء السوريين كقضايا منفصلة بل كمؤشر على صراع بين نموذجين لإدارة العلاقة السورية اللبنانية. نموذج قديم يقوم على الغموض وإدارة النفوذ. ونموذج ناشئ يسعى إلى بناء علاقة دولة بدولة عبر القانون والمؤسسات. ونجاح النموذج الثاني لا يقاس بالتصريحات بل بترجمة عملية عبر لجان ترسيم بجدول زمني واضح ومسار توثيقي هادئ لمزارع شبعا وبروتوكول تعاون قضائي يحترم الحقوق ويصون السيادة. فعندها فقط يمكن القول إن العلاقة بدأت تنتقل من إرث التعقيد إلى أفق التنظيم والاستقرار.

