كتب ابراهيم بيرم في النهار:
“يسري منذ فترة ليست بالقصيرة اعتقاد فحواه ان الرأي العام اللبناني يجنح الى تقبّل فكرة ان ثمة تسوية آتية قريبا من شأنها أن تضع حداً للنزاع القائم بين لبنان وإسرائيل حول حقول نفطية مخزونة في عرض البحر قبالة الساحلين اللبناني والاسرائيلي. ولقد صار اللبنانيون يتصرفون على اساس ان هذه التسوية المنتظرة لن تلبث ان ترى النور. وما زاد منسوب اليقين هو الكلام الواثق الذي يرد على لسان مسؤولين وقيادات حزبية، كما يرد في طوايا مقالات وتحليلات اعلامية.
وعلى بلاغة ذلك كله فان الكلام النوعي والمفاجئ الذي اطلقه خلال الساعات القليلة الماضية المدير العام للامن العام اللواء عباس إبراهيم، عزز الارتياح والتوقع بدنوّ الحل، اذ قال بصريح العبارة: “نحن امام فرصة كبيرة لاستعادة لبنان غناه”، لافتا الى “اننا على مسافة اسابيع وليس اكثر من تحقيق هذا الهدف”.
وفي عملية استدراك، اوضح ان الامر ليس كما تشتهيه سفن الداخل، قائلا: “سوف نصل الى ترسيم الحدود، وهو اقل من حق. هو تسوية تفرضها الظروف الدولية والاقليمية على لبنان”.
إنه كلام جليّ ومكثّف وقد شكّل علامة فارقة ووضع الكثير من النقاط على الحروف في سياق سجال ونقاش يأخذ مداه من الحماوة والسخونة منذ اشهر وتحوّل نزاعا داخليا، لاسيما بعدما اقدمت تل ابيب على إحضار باخرة الحفر والتنقيب اليونانية – الانكليزية ووضعتها على تخوم الحقول المتنازع عليها واقعا ضاغطا، كما انه (كلام إبراهيم) أتى بعد وقت قصير على الخطاب “الحربي” الذي اطلقه الامين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله، والذي ارسى عبره معادلات جديدة وحبلى باحتمالات التصعيد والاحتدام.
وبمعنى اكثر وضوحا، فان ما ورد على لسان اللواء إبراهيم رفع منسوب التفاؤل بالحلول والتسويات الى المستوى الاقصى بعدما استغرق الموضوع اللبنانيين جميعا الى درجة الأَسر والاستحواذ. واكثر من ذلك، فان ثمة مراقبين يبنون على هذا الكلام ليعتبروه “بشرى سارة وخاتمة سعيدة” كونه يقود تلقائيا الى الاستنتاجين الآتيين:
الاول: ان شبح احتمال المواجهة الذي تعزز حضوره في اعقاب كلام السيد نصرالله في اطلالته الاخيرة قد اخذ بالتقلص والانقباض.
والثاني: أنه للمرة الاولى منذ زمن بعيد يتناهى الى الاسماع في لبنان وعد صريح بـ”وفرة مالية آتية” (سمّاها إبراهيم غنى) فأعادت الى الاذهان والوجدان سنوات الوفرة بعد الطفرة النفطية التي غمرت بفيضها دول الخليج العربي في عقود الستينات والسبعينات من القرن الماضي. إنه إذاً وعدٌ جريء من مسؤول يتعين ان يكون واثقا من كلامه الذي يعرف انه كبير ومدوٍ.
ثمة ولا شك اعتبارات عدة تعطي كلام إبراهيم وقعاً ودويّاً أكثر من اي كلام آخر في هذه السنوات العجاف والآمال المبعثرة. ومن ابرز هذه الاعتبارات:
– ان موقع الرجل وتموضعه الوظيفي والسياسي يجعله قريبا جدا من توجه اساسي فاعل في البلاد (اي الثنائي الشيعي، وتحديدا “حزب الله”)، ويجعله ايضا على تماس مع جزء اساسي من الادارة الاميركية التي اعتادت دعوته اليها معززا بعلاقات مع مراكز قرار في عواصم عربية واوروبية الى درجة انه صار يمثل “كلمة سر” مأمونة وموثوقا بها لكل هذه المرجعيات، خصوصا بعدما افلح الرجل في التصدي لحمل ملفات امنية وسياسية شائكة وبالغة التعقيد وعمل بدأب على فتح مغاليقها وحل كلماتها المتقاطعة.
– وعليه صار في حكم المعلوم ان اللواء إبراهيم ما كان يوما بمنأى عن ملف ترسيم الحدود البحرية وامتداداته الداخلية والخارجية وإن لم يظهر في يوم من الايام انه حاضر في قلب الصورة والمشهد تماما. فالمعلومات تؤكد ان دور الوسيط المكوكي الذي ادّاه بصمت القيادي الامني، ولاسيما بعد استدعاء بيروت اخيرا الوسيط الاميركي في مفاوضات الترسيم آموس هوكشتاين في اعقاب استدعاء تل ابيب باخرة التنقيب والاستخراج، كان دورا محوريا وحاسما في توحيد الموقف اللبناني الرسمي من موضوع الترسيم وآليات التعامل معه في اللحظة المفصلية الحرجة. اذ من المعلوم ان اللواء إبراهيم كان وراء اقناع الرؤساء الثلاثة عون، بري، ميقاتي بان يعطى للوسيط هوكشتاين العرض اللبناني الاخير حول الترسيم، مقترحا ان يكون العرض شفهيا وان يرد استهلالا على لسان الرئيس عون، على ان يبادر الرئيسان بري وميقاتي الى ابلاغ هوكشتاين ان موقفهما هو عينه الموقف الذي تبلّغه من رئيس الجمهورية. واللواء إبراهيم هو صاحب فكرة ان يكون العرض شفهيا وليس مكتوبا. وهذا ما حصل في آخر زيارة لهوكشتاين الى العاصمة اللبنانية.
وعليه لم يعد خافيا ان اساس الموقف اللبناني النهائي يقوم على الآتي: ان الحق الذي يطالب به لبنان هو الخط 23 مضافا اليه حقل “#قانا” كاملا.
– ان هذا العرض يعني ضمنيا وتلقائيا اسقاط أي مطالبة لبنانية لاحقا بحقل “كاريش” او بالخط 29.
ومعلوم ان الرد الاسرائيلي على العرض اللبناني الاخير لم يكن رد القابل نهائيا. وهذا يعني ان تل ابيب لم تسلّم بعد بان حقل “قانا” كاملا هو جزء لا يتجزأ من المنطقة الاقتصادية العائدة للبنان، اذ كان ردها يقوم على فكرة ايلاء مهمة التنقيب في هذا الحقل الى شركة اجنبية تتولى هي توزيع عائداته المالية على كلا البلدين وفق نِسب يتم الاتفاق عليها لاحقا. وصار معلوما ايضا ان لبنان رد على الرد بالتمسك بمضامين عرضه وعدم الاستعداد للتنازل عن ملكية حقل “قانا”. وعلى هذا الاساس اطلق “حزب الله” موقفه الاخير على لسان نصرالله.
وبناء على كل هذه المقدمات، فان ثمة في ثنايا كلام إبراهيم ما ينطوي على نوع من الاعلان اللبناني بان الرحلة الشاقة التي بدأت قبل نحو عقد لكي يثبت لبنان حقوقه المكتسبة قد بلغت محطتها الاخيرة ولم يعد هناك مجال لأي اجتهاد او تنازل، والعنوان العريض هو: هذا اقصى ما يمكن ان نحصل عليه تحت وطأة “الظروف الاقليمية والدولية”.
وفي المقابل، فان مصادر على صلة بـ “حزب الله” تعلّق على كلام إبراهيم بالقول انه ما اعتاد يوما ان يطلق الكلام على عواهنه طمعاً بشعبية او نجومية، بل انه يبدي استنتاجات موضوعية ومتعقلة، إلا ان الامر مازال يحتاج الى مزيد من البراهين العملية وفي مقدمها الموقف الاميركي والاسرائيلي لكي يقال اننا بلغنا قمة المراد.
وتتحدث المصادر عينها عن حاجة الادارة الاميركية الى حماية اوروبا من التشظي بعدما ادخلتهاعنوة في حرب مع روسيا عبر اوكرانيا. لذا فان جلّ اهتمامها الآن يتمحور حول تأمين الطاقة للقارة التي تصفها دوما بالعجوز من اي مصدر كان، وهذا ما اكدته جولة بايدن الاخيرة في المنطقة، وربما ان هذه الحاجة الاميركية الملحّة ستكون عامل ضغط اضافيا على الاميركي والاسرائيلي لاتمام الترسيم، ولكن ذلك لا يعني ان الحزب تخلى عما اعلنه اخيرا امينه العام والذي كان عبارة عن رسالة موجهة الى الاميركي اولاً.”